آخر من يُطفئ النور: حكايات الآباء المنسيين

ضربة قلم
في زقاقٍ ضيّقٍ متهالكٍ من المدينة العتيقة،
يجلسُ شيخٌ على كرسيٍّ من خشبٍ هشّ، كأنما استعار من العمر بعض ما تبقّى له من صبر.
تسكنه نظرةٌ مبللة، لا تبكي… بل تقول أكثر من البكاء.
هو لا ينتظر أحدًا تحديدًا، لكنه لا يملك الشجاعة ليكفّ عن الانتظار.
مرّ العمر كنسيمٍ في الصيف، سريعًا، دافئًا، ملتصقًا بالروح.
ربّى أولاده كما تُربّى الكلمة الطيبة، سقاهم من قلبه،
كساهم من كتفيه،
وباع صمته ليشتري لهم أبسط الأفراح.
كبروا…
كبروا فجأة،
وصار صوته خافتًا في قلوبهم،
كما يصير الحنين ظلًا في بيتٍ غاب سكّانه.
لم يبقَ له من الضجيج إلا صوت دقّات قلبه كلما مرّ أحد قرب الباب ولم يتوقف.
صوت يهمس له: “ربما… ربما هذه المرة.”
في المدينة ذاتها، تمرّ السيارات مسرعة،
والبيوت تُضاء دون أن تفتح نوافذها على الجيران،
والودّ، ذلك الطفل الجميل، شاخ هو الآخر… وصار يتوكأ على الذكرى.
الشيخ الذي كان بالأمس دعامةً لأسرة،
صار اليوم خبرًا لا يُروى،
أو اسماً في ملفٍّ بإحدى دور الرعاية،
أو رقماً على دواءٍ مهدّئ لا يُؤخذ إلا للنوم.
وفي كل مساء،
يتوضّأ بدموعٍ لا يراها أحد،
ويُصلّي صلاةً خامسة، ليست من فرائض الإسلام،
بل من فرائض القلب: صلاة “اللهم لا تجعلني ثقيلًا في نظر من كنت لهم كل شيء”.
كم من أبٍ في المغرب…
أخذت منه الأيام كل شيء، ثم أخذت منه أبناءه،
وكم من أمٍّ تشتهي مكالمة، أو حضنًا، أكثر مما تشتهي الخبز أو الشاي.
الشيخوخة ليست وجع الجسد،
بل وجع التخلّي.
الشيخوخة أن تجلس أمام بابك،
وأنت لا تعلم إن كان صدى خطى المارّة…
صدى ذكرى؟
أم فقط… صدى النهاية.