أبطال في الظل: حين يكون الخبز مبللًا بماء البحر وملح العرق

ضربة قلم
في المرافئ الصغيرة، وعلى أرصفة الموانئ التي تفوح منها رائحة السمك والوقود والقلق، يقف البحارة كل فجر، وجوههم محفورة بالملح، وظهورهم محنية لا من الكبر، بل من ثقل ما عاشوه وما ينتظرونه في عرض البحر. لا كاميرات ترصدهم، لا جوائز تُمنح لهم، ولا أحد يسأل: كم مات منهم؟ كم عاد ولم يعد معه أحد؟ كم ابتلعهم البحر صامتًا كما ابتلع آلافًا قبلهم؟
هؤلاء ليسوا مجرد صيادي سمك. إنهم جنود البحر، يخرجون يوميًا في مغامرات لا تخلو من رعب، لا لبطولة استثنائية، بل فقط ليضعوا “قوت اليوم” فوق الطاولة. مَن لم يعرف البحر قد يظنه مجرد مساحة زرقاء، لكنه في الحقيقة، حين يهيج، يتحول إلى وحش لا يرحم، لا يفرق بين محترف ومبتدئ، بين من يصلي قبل الرحيل ومن لا يفعل.
أخطار البحر كثيرة، تبدأ من تقلبات الطقس التي لا يحكمها منطق، مرورًا بالأعطاب الميكانيكية التي قد تصيب قوارب مهترئة أصلًا، وليس انتهاءً بقراصنة العصر أو بزوارق التهريب التي قد تصطدم بأي قارب في عرض البحر دون سابق إنذار. أما الأخطر من ذلك كله، فهو الإهمال المزمن الذي يطال هذا القطاع، حيث يضطر البحارة إلى الإبحار دون أدوات إنقاذ كافية، دون سترات نجاة، وأحيانًا حتى دون أجهزة اتصال فعالة.
كم من بحّار ودّع أبناءه على الرصيف ولم يعد؟ كم من أم نامت بجانب الهاتف تنتظر خبرا، لتُفاجأ بعد أيام بجثة ملفوفة في شباك أو باختفاء لا أثر له؟ لكن لا أحد يعلن الحداد عليهم، ولا تُخفض الأعلام، ولا تُمنح لهم أوسمة. يعود بعضهم بالكاد على قيد الحياة، ويموت آخرون دون أن يكتب عنهم سطر واحد في جريدة محلية.
ثم هناك البُعد الاقتصادي القاسي. البحّار المغربي، في الغالب، لا يمتلك شيئًا سوى يديه. يشتغل لدى “ربان” أو شركة تقتسم معه الأرباح وتترك له الفتات. وإذا مرض أو انكسرت يده أو غرق قاربه، لا يجد سندًا ولا تأمينًا ولا معاشًا. فهل هذا عدل؟ هل هذه حياة تستحق أن نمر بجانبها مرور الكرام؟
ولعل المفارقة الأكبر أن هؤلاء الذين يخاطرون بأرواحهم في عرض البحر هم أنفسهم الذين لا يستطيعون أحيانًا شراء السمك في أسواق اليابسة. أليس في ذلك مهزلة وطنية تستحق وقفة جادة؟
رغم كل ذلك، لا يشتكي البحارة كثيرًا. لا يخرجون في احتجاجات متكررة، ولا يملؤون الشوارع باليافطات. هم من صنف “الصابرين” الذين يُفضلون العودة للبحر بدل الشكوى، لكن صمتهم ليس علامة رضا، بل صرخة مؤجلة، لأنهم يعرفون أن البحر لا ينتظر، والسمك لا يُصطاد من خلف المكاتب.
إننا حين نأكل سمكة شهية، ننسى – أو نتناسى – أنها قد كلفت إنسانًا أن يغامر بحياته ليجلبها من قلب المجهول. ننسى أن وراءها وجع ظهر، ولسعة برد، وخوفًا من الغرق في ليلة لا قمر فيها ولا جهاز نداء استغاثة.
من هنا، فإن أقل ما يمكن أن نطالب به، هو إصلاح جذري لهذا القطاع، بدءًا من تحسين ظروف العمل وتوفير أدوات السلامة، إلى ضمان تغطية صحية ومعاشات محترمة للبحارة، ثم رفع مستوى التقدير المجتمعي لهم. هؤلاء لا يطلبون رفاهية، بل كرامة، ولا يريدون امتيازات، بل احترامًا لأبسط حقوقهم كبشر يواجهون الموت كل يوم من أجل أن نحيا نحن.
فلنُسمّ الأشياء بأسمائها: هؤلاء البحّارة ليسوا مغامرين، بل مضطرون، وليسوا مجرد صيادين، بل حماة الطعام، رجال في الظل لم يُنصفهم الضوء بعد… ولعل الوقت قد حان لنعترف أن البحر، بكل عظَمته، يقف على أكتافهم.