سياسةرياضة

أبعدوا الساسة عن الرياضة وابعدوا مسيري آخر الزمن عن السياسة

ضربة قلم

في زمنٍ اختلطت فيه الأدوار وتداخلت فيه العوالم، لم يعد من السهل التمييز بين السياسي الحقيقي ورجل الرياضة الأصيل، بين من نشأ في الميادين وبين من ترعرع في الكواليس، بين من بنى مجده على العرق والمثابرة، وبين من صنع نفوذه عبر التحالفات المشبوهة والمصالح الضيقة. لقد أصبحت الرياضة اليوم، في كثير من الدول، وخاصة في عالمنا العربي، رهينة السياسيين، كما أصبحت السياسة ملعبا يتهافت عليه من لا يفقهون شيئا لا في المبادئ ولا في المصالح العامة.

ما أشبه واقعنا اليوم بالأسواق العشوائية، حيث يبيع الجميع كل شيء لأيّ كان، دون حسيب أو رقيب. ترى السياسيين يندفعون نحو الرياضة ليس شغفاً بالمنافسة أو رغبةً في النهوض بالبنية الرياضية، بل طمعاً في استثمار الجماهير والوهج الإعلامي، لتحويله إلى أصوات انتخابية أو أداة لتمرير أجندات بعيدة كل البعد عن الروح الرياضية. في المقابل، يتسلل بعض مسيري الرياضة، ممن لا يملكون سوى شهرة لحظية أو رصيد شعبي زائف، نحو العمل السياسي وكأن تدبير الشأن العام لا يتطلب خبرة أو كفاءة، بل مجرد حضور في مواقع التواصل وبعض صور في الملاعب.

هذه الفوضى الأخلاقية والمؤسساتية تنتج لنا هجينا مشوها لا هو سياسي محترف ولا رياضي مبدع، بل مزيج من الفشل في الموقعين، حيث تُغتال السياسة على يد الجهل وتُغتصب الرياضة على يد الطمع. يتحدث بعض الساسة اليوم بلغة “الفار” و”الانتقالات” و”الركنيات”، ويتكلم بعض المسيرين بلغة “الدستور” و”التمثيلية” و”الخطاب السياسي” وهم بالكاد يعرفون الفرق بين دور المنتخب والنائب البرلماني. إنها مهزلة تُدار فوق رؤوس الشعوب، والأدهى أن الجماهير -أحيانا- تصفق لها وتؤمن بها، لأن الواجهة براقة، والأسماء لامعة، لكن المضمون هشّ، والنوايا معطوبة.

حين تُختزل الرياضة في واجهة انتخابية، تُصبح الأندية مجرد أدوات في حملة دائمة، وتُسخّر المنصات الرياضية لتلميع هذا أو ذاك، ويتحول اللاعبون إلى أدوات ضغط واستقطاب، ويضيع معهم الهدف الأسمى من الرياضة، وهو بناء الإنسان قبل الألقاب، ونشر القيم قبل البطولات. لا ننسى كيف وُظّفت الرياضة لتصفية الحسابات السياسية، وكيف استُخدمت رموز الملاعب لضرب خصوم انتخابيين، بل وكيف أُغرِقَت جامعات وهيئات رياضية بكائنات سياسية لا تفقه من الرياضة سوى استغلالها، فتحولت الرياضة من حق جماهيري ومجال للارتقاء المجتمعي، إلى وسيلة تسويقية تُدار بعقلية مكاتب الأحزاب لا بروح الملاعب.

وفي المقابل، حين يركب بعض مسيري آخر الزمن موجة السياسة، فإنهم يُمعنون في إفراغها من مضمونها الجاد، ويحولون النقاش العمومي إلى استعراضات هزلية، حيث يطغى الصراخ على الفكرة، والاصطفاف على الموقف، والتملق على المصلحة العامة. إن الذين لم يفلحوا في تسيير نادٍ صغير، ولم يعرفوا يوما معنى التدبير الرشيد، لا يمكنهم بين ليلة وضحاها أن يصبحوا ناطقين باسم الأمة، أو مفاوضين باسم الشعب. فالأمانة السياسية ليست جائزة لمن أحسن تحريك الجماهير في المدرجات، كما أن التدبير الجماعي ليس تذكرة لمن صرخ في مدرج أو رفع لافتة. إن الشعب لا يحتاج إلى من يلهب حماسته فقط، بل إلى من يفكر بعمق، ويخطط بحكمة، ويعمل بصمت.

نحن بحاجة إلى فصل واضح، صارم، لا لبس فيه، بين المجالين، لا من باب الحجر على الطموح، ولكن من باب الحفاظ على المصداقية والفاعلية. من أراد أن يكون سياسيا فليتدرج كما يجب، وليبني قناعاته ومواقفه، ومن أراد أن يكون رياضيا فليتفرغ لبناء جيل قادر على رفع راية الوطن في المحافل، لا راية الحزب في الانتخابات. لا أحد يرفض التداخل النبيل حين يكون نابعاً من كفاءة حقيقية، لكن الواقع أثبت أن معظم هذه التقاطعات مشبوهة، وأن كثيراً من الذين خلطوا بين المجالين فعلوا ذلك بدافع المصلحة لا بدافع الرسالة.

لقد أفرغنا السياسة من نبلها حين سمحنا بتسلل من لا علاقة لهم بها، وأفرغنا الرياضة من روحها حين فتحنا بابها لمن يريد فقط منصة للظهور أو الاتجار بالبشر. النتيجة هي أن السياسة فقدت هيبتها، والرياضة فقدت رسالتها، والشعب فقد بوصلته.

إن احترام التخصصات لم يعد ترفاً، بل ضرورة مجتمعية. حين يكون السياسي مشغولاً فعلاً بخدمة المواطن، لن يجد وقتاً للركض خلف الكاميرات في ملاعب الكرة. وحين يكون المسير الرياضي مشغولاً فعلاً بتكوين الناشئة وتحسين البنية التحتية، لن يلهث وراء مقعد في البرلمان أو مجلس جماعي. وحدها النوايا السليمة تصنع الفارق، أما الطموحات الفارغة فتصنع الكوارث.

إننا نعيش مرحلة تستدعي الكثير من الصراحة والجرأة، لأننا إن استمررنا في المجاملة والتواطؤ، فسنجد أنفسنا أمام جيل لا يثق في السياسة ولا يحترم الرياضة، لأننا سمحنا بتشويه الصورتين. لقد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها، ولتطهير المجالين من كل دخيل، فكرامة السياسة تقتضي رجال دولة، وكرامة الرياضة تستدعي رجال ميدان، وليس العكس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.