مجتمع

أبناء الدرب: بين نجوم الكرة، أوائل القسم، وأوفياء الزنازين

ضربة قلم

في الأحياء الشعبية المغربية، التي تشكل القاعدة العريضة للنسيج السكني والاجتماعي بالمغرب، تنسج الحياة خيوطها وفق منطق خاص ومعقد، متشابك بين الحرمان والطموح، بين الهشاشة والمقاومة، وبين الهوية الجماعية والتفرد العائلي. لا أحد يختار الحي الشعبي الذي وُلد فيه، لكنه في الغالب يترك بصمته على سلوكك، أحلامك، وحتى على نظرة الآخرين إليك. في هذه الأحياء، لا تحتاج إلى بطائق تعريف ولا إلى نسب معقد لتُعرف: “هادوكْ وْلاد فلان، اللي كيعرفو الكورة مزيان”، أو “هادوكْ اللي كلهم قراو وْخْرجو دكاترة ومهندسين”، أو “هاد العائلة غير مشاكل، كل مرة شي واحد منهم فالحبس”. إنها تصنيفات غير مكتوبة، لكنها راسخة في الذاكرة الجماعية للحي، تتوارثها الأجيال كما يتوارثون أسماء الأزقة.

خذ مثلاً تلك الأسرة المعروفة بولعها بكرة القدم. أبناؤها، جيلًا بعد جيل، يملؤون ساحات الحي بالمهارات والعروض البهلوانية بالكرة. الصغير يقلد أخاه الأكبر، والجيران يتحدثون بفخر عن “ولدهم” الذي لعب في فرق معروفة أو حتى سافر في بعثة رياضية. حكايتهم تُروى كأنها ملحمة حيّ بأكمله، تتحول خلالها الكرة من مجرد هواية إلى مشروع حلم جماعي. بل إن بعض أبناء الحي يتمنون فقط أن يمروا من نفس الفريق المدرسي الذي مر منه أحد هؤلاء “النجوم”، فقط ليلتصق بهم شيء من مجد الحكاية.

في مقابل ذلك، هناك أسر يسطع نجمها في مجال التعليم. تجد فيهم التلميذ المجتهد، والأستاذ الذي يحترمه الجميع، والطالب الذي يتنقل بين الكليات والمدرجات حاملاً معه حلم العائلة بأكملها. أحياناً، يكون للبيت مكتبة صغيرة متواضعة، تتراكم فيها كتب المقررات بجانب الروايات القديمة، وتتحول الأم إلى مشجعة رسمية للحفظ والدراسة، والأب إلى حارس صامت للهدوء اللازم للنجاح. يردد الحي اسم هذه العائلة بإجلال، ويتحول نجاح أفرادها إلى مرآة يعكس عليها الجيران تطلعاتهم.

لكن ليست كل العائلات محظوظة. في زاوية أخرى من الحي، يمكن أن تسمع الناس يهمسون عن أسرة “ما تعرفش غير البوليس والمحاكم”. الأب دخل السجن مراراً بسبب السرقة أو الضرب، والابن الأكبر يتنقل بين مراكز الاعتقال، والأم تئن في صمت وهي تُطارد بين المحاكم ومحطات الحافلات لتزور أبناءها المعتقلين. التكرار هنا ليس صدفة، بل أصبح قدراً محتوماً أو هكذا يبدو. في أعين سكان الحي، هذه الأسرة محكوم عليها مسبقاً، وكأنها تلبس لعنة لا فكاك منها. ويُنظر إلى أطفالهم بعين الشك، ويُحذر منهم الأساتذة في المدارس، حتى قبل أن يُعرفوا بسلوكهم.

وهناك الأسر التي تشتهر بالتباهي والمظاهر. تجد أفرادها يلبسون آخر صيحات الموضة، يركبون دراجات نارية مزعجة، ولا يُفوتون فرصة للحديث عن رحلاتهم وممتلكاتهم، حتى ولو كانت مجرد ديون متراكمة. هم في الغالب يملكون القليل لكنهم يعرفون كيف يظهرونه كثيرًا. هذه الأسر تُشكل ظاهرة ملفتة، حيث تصبح المظاهر أداة لتثبيت مكانة اجتماعية مزيفة، لكنها فعّالة في مجتمع يؤمن غالباً بالعين قبل العقل.

ولا ننسى الأسر التي تتخصص في مهنة معينة؛ النجارون مثلاً، أو الحرفيون، أو حتى بائعي الخضر. في الغالب، تجد هذه المهن تتوارث من الأب إلى الابن، حيث يتعلم الطفل كيف يُصلح بابًا أو يُوازن ميزان الخضر قبل أن يتعلم القراءة. الحي يحترمهم لأنهم “كيتقاتلو على طرف الخبز”، ويجد فيهم نموذجاً للنزاهة والمعقول، حتى وإن لم يُحققوا شهرة أو ثروة.

وبين كل هذه النماذج، تظهر أيضًا أسر تائهة، لا تُعرف لا بكرة القدم ولا بالتعليم ولا حتى بالانحراف. أسر عادية، تمر كالصمت، لا يُعرف عنها شيء مميز. تسكن في بيوت متهالكة، وتعيش على الهامش، لا تزعج أحدًا ولا ينتبه لها أحد. في صخب الأحياء الشعبية، هذه الأسر هي الخلفية الصامتة للوحة مكتظة بالتناقضات.

إن ما يميز الأحياء الشعبية ليس فقط فقرها أو كثافة سكانها، بل غناها الاجتماعي، وتشابك مصائر من فيها. تتلاقى فيها الأحلام المنكسرة مع الطموحات المشتعلة، وتمتزج فيها النماذج السلبية بالإيجابية، دون فواصل واضحة. في كل زقاق قصة، وفي كل بيت ملحمة صغيرة لا تُروى على الشاشات، لكنها محفورة في ذاكرة المكان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.