فن وثقافة

أحمد زكي: ممثل لا يعوّض… حين يصبح التمثيل حياة

ضربة قلم

عندما يذكر اسم أحمد زكي، لا يُذكر كمجرد ممثل، بل كحالة فنية استثنائية لا تتكرر. هو ليس فقط ذلك الوجه الأسمر المليء بالتعابير العميقة، بل هو تلك الروح المتمردة التي عاشت داخل شخصياته، ورفضت الانفصال عنها حتى بعد انتهاء التصوير. أحمد زكي لم يكن يؤدّي أدواره، بل كان يعيشها حتى النخاع، يتنفسها، ويعيد تشكيلها بروح لا تعرف الحدود.

الطفولة القاسية… والميلاد الفني

وُلد أحمد زكي في 18 نوفمبر 1949 بمدينة الزقازيق، محافظة الشرقية. لم يكن الحظ حليفه منذ البداية؛ فقد وُلِد يتيم الأب، وعاش طفولة مليئة بالحرمان، لكنه كان يمتلك ذلك الشغف المبكر بالفن. التحق بالمدرسة الصناعية، وهناك بدأ يكتشف المسرح. كان شابًا أسمر البشرة، نحيف الجسد، لا يحمل ملامح النجوم الكلاسيكية، لكنه امتلك ما هو أهم: عينين تتكلمان، ونفسًا متمردًا على الواقع.

التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ورغم أن الطريق لم يكن ممهدًا أمامه، إلا أن موهبته كانت كفيلة بتذليل الصعاب. في دفعة تخرجه عام 1973، وقف إلى جانب عمالقة المستقبل، لكنه كان الأكثر تحديًا، والأشد تعطشًا لإثبات نفسه.

الصعود من هامش النجومية إلى القمة

بدايته كانت مسرحية، حيث شارك في عروض مثل مدرسة المشاغبين، لكنه لم يقنع بأن يكون مجرد ممثل كومبارس في أعمال يحصد نجومها الأضواء. كانت السينما تنتظره، لكن ليس بالأدوار الرومانسية أو الوسامة الزائفة، بل بأدوار أكثر قسوة، أدوار تبحث عن ملامح مصرية خالصة، عن وجوه تشبه أبناء الحواري والشوارع الخلفية.

أول أدواره السينمائية الكبرى كان في الكرنك (1975) بدور ثانوي، لكن سرعان ما جاء دوره الفعلي في شفيقة ومتولي (1978)، أمام سعاد حسني. هنا بدأت تتضح ملامح أحمد زكي كممثل مختلف، ممثل لا يخشى الأدوار الصعبة، بل يبحث عنها، يغوص في أعماقها، ويسكب فيها كل ما يملك من روح وحياة.

الانفجار السينمائي… ملك الأدوار الصعبة

منذ بداية الثمانينيات، أصبح أحمد زكي أيقونة سينمائية، ولم يكن يختار الأدوار السهلة، بل بحث دائمًا عن الشخصيات المركبة، عن الوجوه التي تحمل ألف قصة. لم يكن مجرد ممثل يؤدي دوره، بل كان يذوب في الشخصية، حتى يكاد يُمحى خلفها.

في العمر لحظة، جسّد الجندي المصري في ملحمة وطنية، وفي البرئ (1986)، قدّم واحدة من أعظم شخصيات السينما المصرية، الجندي الساذج الذي يتحول إلى آلة قمعية دون وعي، حتى تأتي لحظة الانفجار. هذا الدور وحده كان شهادة ميلاد جديدة له، حيث أثبت أنه ممثل من طينة الكبار.

أما في زوجة رجل مهم (1988)، فقد قدّم شخصية الضابط السلطوي ذو النفسية المتقلبة، رجل فقد الإحساس بالواقع، فالتهمه جنون العظمة. قدم زكي هذه الشخصية بأسلوب مذهل، فلا تستطيع أن تكرهه تمامًا، ولا أن تتعاطف معه بالكامل. هذه القدرة على خلق شخصية رمادية معقدة جعلته يتربع على عرش الأداء الواقعي في السينما.

السيرة الذاتية.. عندما يصبح زكي أسطورة حقيقية

كان أحمد زكي مولعًا بالشخصيات الحقيقية، فقدّم السادات في أيام السادات (2001)، في واحد من أصعب أدواره على الإطلاق. لم يكتفِ بتقليد السادات، بل التهم شخصيته، تحوّل إليه بالكامل، حتى صُدم الجميع من مدى تطابقهما. لم يكن تمثيلًا، بل كان أشبه بعملية استحضار روح.

أما حلمه الأكبر فكان نجيب محفوظ وعبد الحليم حافظ، لكنه لم يسعفه العمر ليقدّم نجيب محفوظ، بينما تحققت نصف الأمنية في العندليب الأسمر الذي أكمله رغم مرضه القاتل، ليموت قبل عرضه.

بين الفن والحياة… الوجه الآخر لأحمد زكي

كان زكي يحمل داخله قدرًا هائلًا من التناقضات. رجل يبدو قويًا كالفولاذ، لكنه يحمل هشاشة طفل يبحث عن الأمان. لم يعرف حياة أسرية مستقرة، فطلاقه من هالة فؤاد، وانعزاله النسبي عن الوسط الفني جعله يعيش في وحدة دائمة، لم يملأها إلا الفن.

كان زكي زاهدًا في الأضواء، لا يسعى للحفلات ولا للظهور الإعلامي. كان مهووسًا بعمله فقط. حتى عندما كان يصارع المرض، لم يتوقف عن التمثيل، بل رفض العلاج أحيانًا حتى يكمل مشاهده.

الرحيل.. حين بكت السينما رجلها الأخير

في 27 مارس 2005، رحل أحمد زكي عن عمر ناهز 55 عامًا، بعد صراع طويل مع سرطان الرئة. رحل الجسد، لكن بقيت روحه في كل مشهد قدّمه، في كل لقطة تحمل نظراته المشتعلة بالحياة.

لم يكن أحمد زكي ممثلًا عابرًا، بل كان ظاهرة استثنائية، رجلًا صُنع من معاناة حقيقية، ومن طموح لا حدود له. قد تمر العقود، وقد يأتي ممثلون موهوبون، لكن أحمد زكي سيظل “الممثل الذي لا يعوّض”، لأنه ببساطة لم يكن يُمثّل، بل كان يعيش، ثم يرحل تاركًا خلفه أسطورة لا تموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.