مجتمع

أحياء السعادة… حيث لا سعادة تسكن

ضربة قلم

كثيرة هي التجزئات والوحدات السكنية التي تنبثق من الأرض كما تنبت الحشائش بعد أول مطر، تحمل أسماءً موحية، براقة، تميل إلى الحلم أكثر مما تميل إلى الواقع: “حي الفرح”، “حي السعادة”، “الهناء”، “الصفاء”، أسماء لا تلامس فقط حاجة الناس للسكن، بل رغبتهم العميقة في حياة تحمل طمأنينةً ما، ولو من بعيد.

حين تُعلن لافتة الإشهار عن مشروع جديد يحمل اسم “الفردوس”، لا يكون المقصود مجرد جدران وأبواب ونوافذ. المقصود وعد، خيال ساكن في اللغة قبل أن يُسكن في الاسمنت. اللغة هنا تشتغل كآلية جذب، كحيلة نفسية، كتعويض مسبق عن غياب مضمون حقيقي. أسماءٌ تتقدم أمام الأسوار كستائر شفافة، توحي بما لا يُرى، وتغطي ما لا يُقال. لكنها، مع مرور الزمن، سرعان ما تتورط في نقيض ما تقوله.

فما أكثر “أحياء الفرح” التي لم تعرف ضحكة صافية منذ شُيدت. وما أكثر “أحياء السعادة” التي تسكنها الكآبة الاجتماعية، والوحدة، وضيق الحال. المفارقة أن هذه التسميات، بدل أن تُهدّئ الجراح، قد تُعمّقها، لأنها ترفع من سقف الانتظارات، وتُراكم الوعود التي لا تأتي. يصبح “حي الهناء” مجرّد يافطة تؤثث مدخل حيّ بلا إنارة، بلا حدائق، بلا ملاعب أطفال، بل أحيانًا بلا ماء.

يتحوّل الاسم إذن إلى شكل من أشكال التنكّر، كما لو أن المدينة تريد أن تُقنع ساكنيها بأن ما ينقصهم موجود فقط في العبارة. لكن من يمر من الزقاق الداخلي لـ”حي الصفاء”، وهو يخطو فوق الأرصفة المكسّرة والنفايات المتراكمة، لا يجد للصفاء أثرا، سوى في الحروف المتآكلة فوق لوحة قديمة.

هذه المفارقة بين الاسم وما يقع على الأرض ليست مجرّد مسألة لغوية، بل هي تعبير عن علاقة المجتمع بالوعد، بالحلم، بالمؤجل. إنها شهادة على كيف تُصنع الأوهام في أكثر لحظاتنا حاجة إلى الوضوح. إنها تكشف كيف أننا، رغم كل شيء، لا نزال نصدق الكلمات الجميلة، نتمسك بها كما يتمسك الغريق بقشة. وربما، في هذا التناقض بالذات، يكمن شيء إنساني عميق: أن نمنح للفراغ اسمًا جميلاً، لأننا نخاف من أن نسميه كما هو.

في النهاية، ليست المشكلة في أن نطلق على حيٍّ ما اسم “السعادة”، بل في أن نبني الحيّ كأنه لا يستحقها. ليست المشكلة في الأسماء، بل في الغياب الفادح لكل ما يجعلها معبرة. نعيش وسط أحياء تتكلم عن الفرح، ولا تسمعه. تتزين باسم الأمل، دون أن تملكه. أحياءٌ تسكننا أكثر مما نسكنها، لأنها تقول شيئًا عن هشاشتنا، عن حاجتنا لمن يصدّق بالنيابة عنّا، عن مدينةٍ لم تعد قادرة على أن تمنحنا إلا واجهاتٍ من الحنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.