أساتذة على خطى الباعة المتجولين: بيع العلم بالنقطة وتزوير الغلاف كل عام!

ضربة قلم
في كواليس الجامعات، حيث يُفترض أن تزدهر المعرفة وتسمو الأخلاق الأكاديمية، تتوارى بعض الممارسات التي تقوض جوهر الرسالة التعليمية، وتحوّل علاقة الأستاذ بالطالب من علاقة تربوية سامية إلى علاقة تجارية مبتذلة. في بعض كليات الحقوق، يتفنن بعض الأساتذة في تحويل طلابهم إلى زبائن قسرًا، لا خيار لهم سوى الخضوع لمنطق السوق المموه بغطاء أكاديمي زائف.
تبدأ الحكاية مع بداية كل موسم جامعي، حين يعلن بعض الأساتذة أن مراجع المادة التي سيدرسونها ليست متوفرة في المكتبات العادية أو لدى الباعة المتجولين، بل فقط عبر مصدر واحد: كتاب قام الأستاذ نفسه بتأليفه، أو بالأحرى بتجميعه. كتاب لا يحمل جديدًا، ولا يرقى إلى مستوى المؤلفات العلمية الرصينة، بل هو غالبًا عبارة عن تجميع فصول مقتبسة دون اجتهاد حقيقي، أو نسخ حرفي لنصوص قانونية متاحة أصلًا للعموم. الأسوأ من ذلك أن هذا “المنتوج” يكون مطبوعًا بطريقة رديئة، مملوءًا بالأخطاء الإملائية والركاكة الأسلوبية، لكنه يُقدم للطلبة باعتباره مفتاح النجاح في الامتحان، وكأن من لا يشتريه قد قرر طوعًا أن يرسب.
وفي سعي محموم لزيادة الأرباح وضمان تصريف النسخ الجديدة كل عام، يلجأ بعض الأساتذة إلى حيلة متكررة: تغيير لون الغلاف. في السنة الأولى، يغلف الكتاب بالأحمر، وفي السنة التي تليها بالأزرق، ثم بالأخضر، وهكذا دواليك، وكأن لون الغلاف يكشف عن “تطور علمي” حصل في المحتوى! أما في الحقيقة، فالمضمون يبقى هو نفسه، مجرد عملية تدوير تجاري هدفها إيهام الطلبة أن النسخة الجديدة ضرورية و”محيّنة”، وأن النسخة القديمة صارت متجاوزة، رغم أن الواقع يكذب ذلك بكل بساطة.
بعض الطلبة، مدفوعين بالخوف من الرسوب، أو بسبب قناعة داخلية بأن اللعبة أكبر من قدرتهم على التمرد، ينصاعون صامتين لهذا الابتزاز المبطّن. أما أولئك الذين يرفضون شراء الكتاب، إما لعدم قدرتهم المادية أو لاعتزازهم بكرامتهم العلمية، فقد يجدون أنفسهم يواجهون عواقب غير معلنة، بل أحيانًا قاسية. تسريب معلومات من هنا وهناك يؤكد أن بعض الأساتذة لا يتورعون عن التلاعب في النقاط عقابًا للطلبة “العصاة”، حيث تصبح ورقة الامتحان ميدانًا للانتقام بدل أن تكون ميدانًا للتقييم النزيه.
في هذا المناخ المشحون، يتلوث المعنى الحقيقي للجامعة. تتحول قاعات الدرس إلى أشبه بسوق أسبوعي، يحكمه قانون العرض والطلب بدل ميثاق شرف أكاديمي. يغيب التحفيز على البحث الحر، وتتراجع رغبة الطلبة في الاطلاع الواسع، إذ يصبح همهم الأول إرضاء الأستاذ بدل الإبحار في رحاب العلم. النتيجة الطبيعية لهذا الوضع تتعلق بتخرج أجيال مشوهة علميًا، حاملة لشواهد أكاديمية لكنها جوفاء معرفيًا، تُضاف إلى طوابير العاطلين عن العمل أو العاملين في مجالات لا تمت لدراساتهم بصلة.
أما على المستوى الأخلاقي، فالأمر أفدح. حين يرى الطالب في أستاذه نموذجًا للانتهازية والمصلحة الشخصية، تتزعزع ثقته في كل المنظومة التربوية. ينشأ جيل يعتبر الغش والالتواء والنفاق سبلًا مشروعة للنجاح، مادام قد تعلمها داخل أكثر الأماكن قداسةً: الجامعة. بل قد يتحول هذا السلوك لاحقًا إلى الإدارات، إلى قاعات المحاكم، إلى كل مفصل من مفاصل الحياة العامة، حيث يصبح الفساد “عادة” بدلاً من أن يكون “شواذًا”.
من المؤلم أن تظل هذه الظاهرة مسكوتًا عنها، وأن تغض الجهات الوصية الطرف عنها، إما بسبب العجز عن المواجهة، أو بسبب وجود شبكة مصالح متداخلة تجعل من التغيير مغامرة محفوفة بالمخاطر. ولا شك أن هناك أساتذة شرفاء، أمناء على رسالتهم، يرفضون مثل هذه السلوكات المشينة، لكن الأصوات الشريفة تظل أحيانًا خافتة أمام ضجيج المصالح وتواطؤ الصمت.
في النهاية، ما أكثر الشعارات الرنانة التي ترفع عن إصلاح التعليم والارتقاء بجودته، وما أقل الأفعال التي تستهدف اجتثاث مثل هذه الآفات من جذورها. طالما استمر السكوت، وطالما ظل التلاعب بالنقاط سلاحًا مشرعًا بيد بعض من يفترض أن يكونوا حماة للعلم، فسيظل السؤال عالقًا، يلاحقنا كأمة تراهن على مستقبلها: أي عدالة يمكن أن نتحدث عنها إذا كان معلمو العدالة أنفسهم يمارسون الظلم في أبسط صوره؟
Good https://dub.sh/LAqZ3qv