مجتمعسياسة

أين نحن من زمن التغني بالصحة للجميع؟

ضربة قلم

في زمنٍ غير بعيد، كان الحديث عن “الصحة للجميع” يُرفع كشعار يحمل وعودًا بالعدالة والكرامة، وكان يُسوَّق على أنه التزامٌ ثابت تجاه المواطن البسيط الذي يجد في الدولة حضنًا يحميه من قسوة المرض وعجز الجيب. غير أن الواقع اليوم ينسف تلك الأحلام الوردية، ليكشف عن فجوةٍ شاسعة بين الخطابات الرسمية وما يعيشه المواطن المغربي في رحلة بحثه عن أبسط حقوقه العلاجية.

ليس على المواطن الفقير سوى أن يجرب بنفسه: يدخل إلى مستشفى عمومي وهو يحمل في قلبه أملًا، لكن سرعان ما يتحول ذلك الأمل إلى قلق ثم إلى إحباط، عندما يصطدم ببنية تحتية متهالكة، وقاعات انتظار تعج بالمرضى، وطوابير لا نهاية لها أمام مكاتب الاستقبال. سيكتشف أن عليه أن يدفع، رغم أنه ظن أن العلاج مجاني، وحين يبرز شهادة الفقر التي لطالما اعتبرها مفتاحًا لرحمة النظام الصحي، سيُقال له إنها لم تعد تنفع. أما إن كان من المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافًا، فليس له سوى أن يصبر على أوجاعه، أو أن يعود أدراجه، تاركًا مرضه يتفاقم بصمت.

هذا الواقع المأساوي ليس مجرد استثناء هنا أو هناك، بل أصبح القاعدة التي تسير عليها أغلب المستشفيات العمومية، حيث يتحول المرض من ابتلاء قدري إلى اختبار اجتماعي قاسٍ، لا ينجو منه إلا من كان له نصيبٌ من المال أو النفوذ أو حتى القدرة على التودد لمن بيدهم مفاتيح المواعيد والأسرّة والتشخيصات الطبية. فهل نحن حقًا في زمن “الصحة للجميع”، أم أننا في زمنٍ أصبحت فيه الرعاية الصحية سلعةً لا يقدر عليها إلا المحظوظون؟

من المفارقات الصادمة أن بعض المستشفيات الكبرى لا تتوفر حتى على المعدات الأساسية لإجراء فحوصات أو عمليات جراحية مستعجلة. المرضى يُطلب منهم في كثير من الأحيان اقتناء أدوات الجراحة أو حتى الأدوية التي من المفترض أن تكون متاحة داخل المستشفى. أجهزة التصوير بالأشعة معطلة أو غير متوفرة، مما يضطر المرضى إلى البحث عنها في العيادات الخاصة بأسعار باهظة. بل إن بعض المستشفيات لا تتوفر حتى على سيارات إسعاف مجهزة لنقل الحالات الحرجة.

يعاني القطاع الصحي العمومي من نقص كبير في الأطر الطبية، خصوصًا الأطباء المختصين، حيث يضطر المواطنون إلى الانتظار لشهور من أجل موعد مع طبيب مختص في أمراض القلب، أو الأعصاب، أو الأورام. في بعض المستشفيات، قد تجد طبيبًا واحدًا يشتغل على عدة أقسام، بينما يغيب بعض الأطباء عن مقرات عملهم دون رقابة حقيقية، تاركين المرضى لمصيرهم.

إذا كنت محظوظًا بما يكفي لتعرف شخصًا داخل المستشفى، فقد تتمكن من الحصول على موعد سريع أو الاستفادة من سرير في قسم الإنعاش. أما المواطن العادي، فعليه أن ينتظر في طابور طويل بلا أي ضمانات. الرشوة أصبحت شبه مكشوفة، فهناك من يدفع من أجل إجراء عملية جراحية دون تأخير، وهناك من يضطر لدفع المال حتى للحصول على سرير نظيف أو عناية خاصة من الطاقم الطبي. هذه الممارسات ترسخ الفوارق الاجتماعية وتجعل من العلاج امتيازًا بدلًا من كونه حقًا أساسيًا لكل مواطن.

في الماضي، كانت “شهادة الفقر” وسيلة تسمح لبعض الفئات الهشة بالحصول على العلاج مجانًا أو بتكلفة رمزية. أما اليوم، فقد أُفرغت هذه الشهادة من مضمونها، وأصبح على المواطن تحمل تكاليف العلاج، حتى لو كان عاجزًا عن ذلك. أما من يتعففون عن مدّ أيديهم، فهم الأكثر تضررًا، إذ يبقون بين نارين: إما التداوي في مستشفيات لا توفر الحد الأدنى من الرعاية، أو اللجوء إلى القطاع الخاص الذي يرهق جيوبهم ويثقل كاهلهم بالديون.

في ظل هذه الأوضاع، يصبح الحديث عن “الصحة للجميع” مجرد شعار أجوف، فالواقع يثبت أن الفئات الهشة تُترك لمصيرها، بينما يجد الأغنياء بدائلهم في المصحات الخاصة داخل البلاد أو حتى في الخارج. ما لم يتم إصلاح المنظومة الصحية جذريًا، وتحقيق العدالة في الولوج إلى العلاج، فإن الأزمة ستستمر، وسيبقى الحق في الصحة امتيازًا لا يناله الجميع.

إذا كانت الصحة حقًا أساسيًا تضمنه الدساتير وترعاه الدولة، فلماذا يجد المواطن المغربي نفسه غريبًا بين جدران مستشفيات وطنه، يشعر وكأنه دخل متاهة بلا مخرج؟ لماذا يتحول المرض إلى عبء نفسي واجتماعي، بدل أن يكون مرحلة علاجية يجد فيها الإنسان سندًا من مؤسساته؟

اليوم، لا نحتاج إلى خطابات جديدة حول “الإصلاح” ولا إلى وعود سرعان ما تذوب في ردهات البيروقراطية، بل نحتاج إلى ثورة حقيقية في القطاع الصحي، تبدأ أولًا من الاعتراف بالمشكلة كما هي، لا كما يريد البعض أن يراها. لن يتحقق التغيير إلا حين تصبح المستشفيات مكانًا للعلاج لا مجرد محطات انتظار باردة، وحين يصبح الطبيب موظفًا لخدمة المريض لا مجرد فرد يتعامل مع عمله كواجب ثقيل، وحين يكون الدواء متاحًا كحق وليس كامتياز لمن يملك القدرة على الدفع.

إن استمرار الوضع على ما هو عليه لا يعني فقط تدهور الخدمات الصحية، بل يكرس فقدان الثقة في المؤسسات، ويؤدي إلى مزيد من الإحباط لدى المواطنين الذين يشعرون أن الدولة تتخلى عنهم في أكثر اللحظات هشاشة في حياتهم. وحين يفقد الإنسان إيمانه بأن هناك من يحميه في لحظات مرضه، فإنه يفقد جزءًا من إحساسه بالمواطنة والانتماء.

فهل سيأتي يومٌ يكون فيه الدخول إلى المستشفى العمومي تجربة إنسانية تحفظ الكرامة بدل أن تكون اختبارًا لقوة التحمل والصبر؟ هل سنشهد زمنًا لا يُترك فيه الفقير لمصيره فقط لأنه لا يملك مالًا أو وساطة؟ أم أننا سنظل ندور في نفس الدوامة، حيث الصحة للجميع… لكن على الورق فقط؟

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد خلل بسيط في المنظومة، بل هو انهيار مدوٍ لحق أساسي من حقوق الإنسان، وتحول المستشفيات إلى ساحات معارك يخوضها المواطن ضد الفقر والمرض والفساد الإداري. لن يكون هناك أي تغيير حقيقي إذا لم تتحرك الدولة لإصلاح القطاع الصحي جذريًا، ليس عبر ترقيعات مؤقتة أو مشاريع ترويجية، بل عبر قرارات جريئة تعيد الهيبة للمستشفى العمومي، وتضمن للمواطن العادي حقه في العلاج بكرامة.

إن الثورة الحقيقية تبدأ عندما يُعامل الإنسان كإنسان، لا كرقم في طابور طويل ينتظر العناية، أو كحالة مستعجلة تبحث عن سرير غير متوفر، أو كمريض يضطر إلى دفع رشوة ليحصل على موعد لإنقاذ حياته. تبدأ عندما يصبح الطب رسالة إنسانية، لا مجرد مهنة يحكمها منطق الربح والخسارة. تبدأ عندما يتوقف المواطن عن الخوف من المرض، ليس لأنه لن يمرض، بل لأنه يعرف أن هناك منظومة صحية تحميه، لا تسلبه آخر ما تبقى له من كرامة.

أما اليوم، فكل ما لدينا هو شعارات فارغة، وواقع لا يرحم، ومواطن يذبل في طوابير الانتظار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.