إدريس لشكر يُغرّد خارج السرب.. وأبو زيد تُعيده إلى دفتر الاتحاد!

ضربة قلم
يبدو أن إدريس لشكر قرر أن يكون أول سياسي مغربي يضع نظرية جديدة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي: “نقد المقاومة مع الاحتفاظ بحق التعاطف مع الضحايا”. الرجل، الذي ظل لسنوات متوارياً في كواليس اللعبة السياسية، خرج فجأة ليقدم للعالم تحليلاً استراتيجياً عبقرياً، خلاصته أن الفلسطينيين مسؤولون عن مأساتهم، وأن المقاومة عبثية، وكأن إسرائيل كانت على وشك توزيع مفاتيح القدس على سكان غزة، لولا أن فصائل المقاومة “أفسدت الصفقة”.
بالطبع، لم يمر هذا التحليل مرور الكرام داخل حزبه العتيد، حزب “الوردة” الذي يبدو أنه صار يذبل يوماً بعد يوم بسبب “الريّ” الانتقائي لمبادئه. فجأة، انتفضت حسناء أبو زيد، القيادية بالحزب، لتلقن الكاتب الأول درساً في التاريخ والنضال، بلغة لم تخلُ من التحسر على ما آل إليه الحزب الذي كان في زمن مضى قلعة الصمود والمواقف الصلبة، فإذا به يتحول إلى مصنع لإنتاج التصريحات المثيرة للجدل، والتي لا تخدم سوى أصحابها في بورصة المصالح السياسية.
أبو زيد لم توفر جهداً في تفكيك “الإبداع الفكري” الجديد لزعيم حزبها، مؤكدة أن ما قاله لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون موقفاً رسمياً للحزب، بل لا يتعدى كونه “رأي شارد لمتتبع يشاهد التلفزيون بين فاصلين إعلانيين”. بمعنى آخر، هي تحاول أن تنقذ ماء وجه الحزب بالقول إن تصريح لشكر لا يمثل الحزب بقدر ما يمثل “اجتهادات شخصية” لرجل يبدو أنه لم يعد يجد ما يقوله ليحجز لنفسه مكاناً على طاولة السلطة.
لكن حسناء لم تكتفِ بمجرد نفي علاقة الحزب بمواقف زعيمه، بل ذهبت إلى جوهر المشكل: أين هي النخبة الفكرية للحزب؟ أين هي العقول التي كانت تضع الخط السياسي على أسس معرفية؟ لماذا أصبح الحزب مجرد منصة لإطلاق تصريحات منفصلة عن الواقع؟ في نظرها، لشكر لا يرى في الحزب سوى وسيلة لتحقيق غاية واحدة: السلطة. السلطة بأي ثمن، ولو كان الثمن هو التضحية بالمبادئ والقيم التي ناضل الحزب من أجلها لعقود.
وفي تحليلها لتصريحات لشكر، رأت أبو زيد أن الأمر لا يتعلق فقط برأي شخصي، بل بمحاولة “تطبيع” مواقف الحزب مع التوجهات التي قد تضمن له مقعداً حكومياً، مهما كان الثمن. فهي ترى أن الرجل يحاول أن يثبت قدرته على “المرونة” السياسية، مستعداً للتخلي عن كل شيء في سبيل إثبات جدارته كشريك سياسي موثوق به لدى الجهات الفاعلة في المشهد. وهنا مربط الفرس: هل أصبح الاتحاد الاشتراكي مجرد ورقة يتم استخدامها وقت الحاجة، ثم يتم طيها بمجرد انتهاء صلاحيتها؟
المثير في كلام أبو زيد أنها لم تتحدث فقط عن قضية فلسطين، بل ربطت الأمر بمسألة أكبر: تدهور دور المعارضة في المغرب. فهي ترى أن لشكر يمارس المعارضة، ليس لإحداث تغيير حقيقي أو لطرح بدائل، بل فقط لتذكير الجميع بأنه ما زال موجوداً، في انتظار اللحظة المناسبة للقفز إلى الضفة الأخرى. وهنا تكمن الكارثة: حين تصبح المعارضة مجرد “لعبة” هدفها الابتزاز السياسي، فإن المواطن يفقد الثقة، والشباب يعزفون عن السياسة، والنتيجة هي ما نراه اليوم من عزوف وتراجع للنقاش السياسي الجاد.
وفي معرض حديثها، لم تخفِ أبو زيد استياءها مما آل إليه الحزب تحت قيادة لشكر، حيث وصفته بأنه بات يعيش حالة “اغتراب مرجعي وسياسي وأخلاقي”، وهو توصيف مخيف لحزب كان في يوم من الأيام قلعة فكرية وسياسية. لكن يبدو أن الاغتراب ليس مجرد وصف، بل حقيقة يعيشها الحزب يومياً، حيث لم يعد له موقف واضح، ولم يعد قادراً حتى على تنظيم لقاءات فكرية تجمع الأكاديميين والمختصين لاستيعاب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.
وهكذا، وسط هذا الجدل، يجد الاتحاد الاشتراكي نفسه في موقف لا يُحسد عليه: زعيمه يطلق تصريحات منفلتة، وقياديته ترد عليه كأنها ترد على شخص غريب عن الحزب، فيما القواعد الحزبية تتابع المشهد بدهشة، تتساءل: إلى أين نحن ذاهبون؟ هل أصبح الاتحاد الاشتراكي فعلاً حزباً بلا بوصلة؟ أم أن الأمر مجرد سحابة صيف عابرة؟
المشكلة أن السحابة ليست صيفية، ولا يبدو أنها عابرة. يبدو أن ما يحدث هو جزء من تحول أكبر، حيث لم تعد الأحزاب السياسية ترى في المواقف المبدئية سوى “ترف” يمكن التخلي عنه متى دعت الحاجة. فحين يصبح الدفاع عن فلسطين مسألة “رأي شخصي”، وحين تتحول المعارضة إلى مجرد “موقف انتظاري”، وعندما يصبح التماهي مع السلطة هو الهدف الأسمى، فإننا أمام مشهد سياسي ينزلق بسرعة نحو الفراغ.
وفي النهاية، ربما يكون تصريح لشكر مجرد زلة لسان، وربما يكون محاولة مقصودة لجس نبض الرأي العام. لكن المؤكد أن الرد عليه من داخل الحزب يعكس حجم الأزمة الداخلية التي يعيشها الاتحاد الاشتراكي. فمنذ متى كان الحزب بحاجة إلى قياديته للقول إن القضية الفلسطينية عادلة؟ ومنذ متى كان لزاماً على المناضلين تبرير تصريحات زعيمهم وكأنها سقطت عليهم من السماء؟ كل هذه الأسئلة تبقى معلقة، لكنها تعكس شيئاً واحداً: الاتحاد الاشتراكي لم يعد ذلك الحزب الذي نعرفه.