إشكالية عدم توصل المتقاضين باستدعاءات المحاكم: بين الاختلالات العملية والتداعيات القانونية

ضربة قلم
يعد التبليغ القضائي في الأنظمة القانونية أحد الركائز الأساسية لضمان احترام حقوق الدفاع وتحقيق المحاكمة العادلة، إذ لا يمكن تصور سير إجراءات التقاضي بطريقة سليمة دون إخبار الأطراف المعنية بموعد الجلسات وتمكينهم من التفاعل مع المسطرة القضائية. ومع ذلك، يواجه النظام القضائي المغربي، إشكالات جدية تتعلق بعدم توصل المتقاضين باستدعاءات المحاكم، مما تترتب عليه مجموعة من الآثار السلبية التي قد تؤثر على مصالح الأفراد ونجاعة القضاء ككل.
أولًا: الإطار القانوني للتبليغ القضائي
تخضع إجراءات التبليغ لمقتضيات قانون المسطرة المدنية، خصوصًا في المواد 37 إلى 39، والتي تنص على أن التبليغ يجب أن يتم:
- بواسطة الأعوان القضائيين أو المفوضين القضائيين.
- في موطن الشخص المعني أو محل عمله.
- بإمكانه أن يتم عبر البريد المضمون مع إشعار بالتوصل.
- عند تعذر التبليغ الشخصي، يمكن تسليمه لأحد أفراد العائلة البالغين.
- في حالة عدم العثور على المعني أو من ينوب عنه، يتم اللجوء إلى التبليغ عن طريق نشر الإعلان في الجريدة الرسمية.
غير أن هذه المقتضيات، رغم وضوحها من الناحية القانونية، تعاني من عدة ثغرات على المستوى التطبيقي، مما يجعل عملية التبليغ عرضة للعديد من الإشكالات.
ثانيًا: أبرز المشاكل العملية في عملية التبليغ
1. التبليغ في عناوين غير صحيحة أو منعدمة
- يواجه عون التبليغ صعوبة في العثور على المعني بالأمر إذا كان العنوان غير واضح أو قديم.
- في بعض الحالات، يكون العنوان المدون في الوثائق الرسمية غير محدث، خصوصًا في حالات انتقال الشخص للسكن في مكان آخر دون التصريح بذلك.
- عدم توفر عنوان قار، خاصة لدى الفئات الهشة أو بعض الأشخاص الذين يتنقلون باستمرار بين مدن مختلفة.
2. تقصير المفوضين القضائيين وأعوان التبليغ
- بعض الأعوان لا يبذلون جهدًا كافيًا في البحث عن المبلغ إليه، ويكتفون بمحاولة وحيدة قبل تدوين ملاحظة “غير مطلوب” أو “العنوان غير صحيح”.
- في بعض الحالات، يتم التبليغ بطرق غير قانونية، مثل تسليم الاستدعاء لجار أو لشخص غير مؤهل قانونيًا، مما يخلق إشكاليات حول صحة الإجراء.
- بعض المفوضين القضائيين يعتمدون على أساليب شكلية دون الالتزام بالمقتضيات القانونية بحذافيرها، ما يؤدي إلى بطلان التبليغ.
3. صعوبة التبليغ في المناطق القروية
- في العالم القروي، قد لا تتوفر عناوين دقيقة بسبب غياب أرقام المنازل أو لوحات التوجيه.
- الأعوان المكلفون بالتبليغ قد يجدون صعوبة في الوصول إلى المناطق النائية بسبب بعد المسافة وقلة وسائل التنقل، مما يؤدي إلى تأخير أو إهمال عملية التبليغ.
- بعض السكان يرفضون التعاون مع أعوان التبليغ خوفًا من القضايا القضائية، مما يزيد من تعقيد الأمر.
4. التبليغ عن طريق البريد وإشكالياته
- أحيانًا يتم إرسال الاستدعاء عبر البريد المضمون مع الإشعار بالتوصل، لكن قد لا يكون المعني بالأمر متواجدًا لاستلام الطرد.
- في بعض الحالات، يهمل البريد إعلام المعني بوجود رسالة مضمونة باسمه.
- قد يتم رفض الاستلام من طرف أفراد الأسرة، ما يؤدي إلى إرجاع الطرد دون إتمام الإجراء.
ثالثًا: التداعيات القانونية لعدم التوصل بالتبليغ
1. المساس بحقوق الدفاع
عدم التوصل بالاستدعاء يؤدي مباشرة إلى غياب الطرف المعني عن الجلسات، مما قد يتسبب في إصدار أحكام غيابية في حقه. وهذا يشكل مساسًا بمبدأ حقوق الدفاع الذي ينص عليه الدستور المغربي والمعاهدات الدولية المصادق عليها.
2. صدور أحكام غيابية وتأثيرها على المحكوم عليهم
- الأحكام الغيابية يمكن أن تترتب عليها إجراءات تنفيذية دون علم المحكوم عليه، مما قد يفاجئه بقرارات حجز على ممتلكاته أو حتى إصدار أوامر بالإفراغ في قضايا الكراء.
- بعض القضايا الجنائية قد تؤدي إلى إصدار مذكرة بحث أو اعتقال دون أن يكون المتهم على علم أصلاً بالمحاكمة الجارية في حقه.
3. تعطيل سير العدالة وزيادة العبء على المحاكم
- عند ثبوت عدم التبليغ، يضطر القاضي إلى تأجيل الجلسة أو إعادة استدعاء الأطراف، مما يؤدي إلى إطالة أمد النزاعات القضائية.
- كثرة الطعون المتعلقة بعدم التوصل بالاستدعاءات يؤدي إلى تضخم الملفات أمام محاكم الاستئناف والنقض.
- في بعض الحالات، يتم فتح مساطر إعادة التبليغ التي تستهلك وقتًا إضافيًا وتعرقل سير الملفات.
رابعًا: الحلول المقترحة لمعالجة إشكالية التبليغ القضائي
1. تحديث قواعد البيانات وربطها بالسجلات الوطنية
- فرض تحديث العناوين عند تقديم الدعاوى، وربطها بالسجل الوطني للحالة المدنية وبطاقات التعريف الوطنية لضمان توفر عناوين صحيحة.
- اعتماد نظام رقمي متطور يسمح بالوصول إلى قاعدة بيانات العناوين المصرح بها في الإدارات العمومية.
2. تعزيز آليات التبليغ الإلكتروني
- إدماج نظام التبليغ عبر البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية لضمان سرعة التواصل بين المحكمة والمتقاضين.
- إحداث منصة رقمية يمكن من خلالها للمتقاضين التحقق من مواعيد الجلسات وتتبع إجراءات التبليغ.
3. تقوية الرقابة على أعوان التبليغ والمفوضين القضائيين
- ضرورة فرض مراقبة صارمة على عمل أعوان التبليغ والمفوضين القضائيين، وإلزامهم بتوثيق عملية التبليغ بالفيديو أو التوقيع الرقمي عند الاقتضاء.
- إقرار عقوبات تأديبية على المفوضين الذين يتهاونون في أداء مهمتهم أو يقومون بتبليغات صورية.
4. إعادة النظر في التشريعات المنظمة للتبليغ
- توسيع مفهوم التبليغ ليشمل وسائل حديثة مثل التطبيقات الذكية والإشعارات الإلكترونية.
- إعادة النظر في المادة 39 من قانون المسطرة المدنية، بحيث يتم النص على إمكانية إعادة المحاكمة في الحالات التي يثبت فيها أن التبليغ لم يتم بشكل سليم.
خاتمة
تبقى مشكلة عدم التوصل بالتبليغات القضائية من القضايا التي تتطلب إصلاحًا جذريًا لضمان عدالة فعالة وسريعة. فبين الاختلالات القانونية والعملية، تتضرر حقوق الأفراد وتتعطل مصالح المتقاضين، مما يفرض على الدولة العمل على تطوير منظومة التبليغ بوسائل حديثة تتماشى مع تطورات العصر وتضمن وصول الاستدعاءات إلى المعنيين بها في الوقت المناسب.