دفاتر قضائية

الأحرار في الصدارة دائمًا: بين صناديق الاقتراع وقفص الاتهام وحتى السجون

ضربة قلم

ها هو حزب التجمع الوطني للأحرار، الحزب الذي لا يكاد يخلو من العناوين البراقة و”الصدمات الانتخابية” التي غالبًا ما يتصدرها في سباق الصناديق، يجد نفسه مرة أخرى في الواجهة، لكن هذه المرة ليس عبر صعود في استطلاعات الرأي أو اكتساح للمجالس، بل عبر مسلسل سقوط مدوّ في قاعات المحاكم. من قبة البرلمان إلى قفص الاتهام، ومن صور الحملة الانتخابية المزدانة بالألوان والوعود، إلى صور المتهمين في محاكم جرائم الأموال. ها هو عبد الجليل قربال، رئيس جماعة تامصلوحت بإقليم الحوز والقيادي المحلي بحزب الأحرار، ينال حكمًا قضائيًا بالسجن لمدة سنتين، سنة نافذة وأخرى موقوفة التنفيذ، بعد إدانته بتهم اختلاس وتبديد أموال عمومية، وهي أموال لم تكن يومًا ملكًا خاصًا، بل كانت أمانة وُضعت بين يديه باسم السكان، فإذا به يبددها وكأنها غنيمة حرب قديمة.

التهم ليست عابرة ولا جاءت من فراغ، بل تستند إلى تحقيقات امتدت لسنوات، إثر شكاية تقدم بها عضو من نفس المجلس الجماعي سنة 2019، كشف فيها عن رائحة اختلالات مالية وإدارية لا تخطئها الأنوف، وخاصة في مجال الصفقات العمومية التي من المفترض أن تخدم الساكنة، لكنها تحوّلت، حسب الادعاءات، إلى مطية للاغتناء أو على الأقل، للتصرف العشوائي في المال العام. النيابة العامة لم تكتف بالتهم الشكلية، بل عمقت التحقيق في تفاصيل سوء التدبير واستغلال النفوذ، لتخلص إلى أن الأمر لم يكن مجرد هفوات إدارية، بل نمطًا ممنهجًا من الفساد المحلي الصغير، الذي يتغذى على غياب المراقبة واستغلال السلطة تحت غطاء حزبي يحتمي بشعار “أغراس أغراس” الذي فقد كل معناه في مثل هذه اللحظات.

الغريب في الأمر أن هذا الملف ليس الأول ولن يكون الأخير، فالحزب الذي يقود الحكومة ويصدّر نفسه كرمز للكفاءة والحداثة و”المغرب الجديد”، يجر خلفه ذيلًا طويلاً من المتابعات القضائية التي تمس رؤساء جماعات و”فاعلين سياسيين” من داخل منظومته، وكأن الصعود في الحزب مشروط بمواكبة دروس في التدبير الفاسد. والأدهى من ذلك، أن المواطن العادي الذي منح صوته بكل أمل لهذا الحزب، قد يجد نفسه اليوم أمام مشهد يتكرر فيه شعار“كنا نظن غادي تحاسبوا الفساد، ماشي تحاسبو بيه!”، بعد أن تحولت صناديق الاقتراع إلى وسيلة لنقل البعض من صفة مرشح إلى متهم، ومن مكتب الجماعة إلى منصة المحكمة.

بعيدًا عن الحكم القضائي في حد ذاته، والذي يُفترض أنه ينتمي إلى سلطة مستقلة، فإن القضية برمتها تطرح سؤالاً سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا: كيف يمكن لحزب يُفترض فيه أن يُمثل ركيزة الدولة الحديثة أن يتحول إلى عنوان دائم في أخبار المتابعات والاختلالات؟ هل الأمر محض صدفة؟ أم أن الخلفية الحزبية صارت مجرد واجهة تُستغل للوصول إلى موارد الدولة، لا لخدمة الناس، بل لتكديس المنافع الشخصية؟ لقد أصبح من العادي في المغرب أن تقرأ خبرًا عن توقيف أو محاكمة رئيس جماعة، وتكاد تتوقع مسبقًا أنه ينتمي لحزب الأحرار، وكأننا أمام ظاهرة تستحق دراسة سوسيولوجية وسياسية معمقة.

وإذا كانت بعض الأحزاب الأخرى تحاول قدر الإمكان التبرؤ من أعضائها المتورطين في قضايا فساد، فإن حزب الأحرار، وعلى غرار ما حصل في حالات سابقة، يلتزم بالصمت، أو يختبئ خلف البلاغات العامة التي تُمجّد الشفافية وتحارب الفساد “نظريًا”، بينما الواقع يثبت أن الحساب الوحيد الجاري هو حساب الأصوات، وليس حساب المال العام. فالمهم أن نربح الانتخابات، أما المال العام، فالله غالب.

في ظل هذا الواقع، لم يعد غريبًا أن يشعر المواطن أن السياسة أصبحت مهنة بلا محاسبة، وأن “الوجوه السياسية” مجرد أقنعة تختفي خلفها شبكة معقدة من الامتيازات والاستغلال. وربما هذا ما يفسر عزوف الشباب عن العمل السياسي، وانهيار الثقة في المؤسسات، وتفاقم الفجوة بين الخطاب الرسمي ومشاعر الناس. لأنهم ببساطة، يرون من يُنتخب باسمهم يُدان باسمهم، دون أن تُراجع المنظومة نفسها أو تُطرح الأسئلة المؤلمة: من يُزكي هؤلاء؟ ومن يُحاسبهم؟ ولماذا لا تُفعل آليات العزل السياسي قبل أن ننتظر حكمًا قضائيًا؟

هكذا، بينما تواصل المدينة والقرى المحيطة بها معاناتها من ضعف الخدمات وتراكم المشاكل، نجد أن بعض رؤسائها يُحاسبون ليس على تقصيرهم، بل على تورطهم في نهب مواردها. وهكذا أيضًا، تتحول السياسة إلى ميدان يختلط فيه المال بالسلطة، والحزب بالمنفعة، والشعار بالتحايل، وتبقى “الصدارة” محفوظة لحزب الأحرار، سواء في الانتخابات أو في نشرات الأخبار القضائية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.