الأم… ذلك الكتف الذي لا يشيخ، والصوت الذي لا يخفت

م-ص
في هذا العالم المتقلب، حيث تتغير الأحوال وتتبدل الوجوه وتتناسل الأحداث كما تتناسل فصول السنة، تظل الأم الثابت الوحيد، الينبوع الدافئ الذي لا ينضب مهما طال الجفاف، والمرفأ الذي يعود إليه الجميع مهما شطّت بهم البحار. ليست الأم فقط تلك المرأة التي أنجبت، بل هي التي احتضنت، وربّت، وصبرت، وابتسمت في عزّ تعبها وكأنها تقول: “أنا هنا، لا تقلق.”
الأم ليست مؤسسة اجتماعية فقط، ولا مجرّد علاقة بيولوجية تربط إنسانًا بآخر. هي أكثر من ذلك بكثير. إنها ذاكرة جماعية، أرشيف من العطر والدعاء، وحارس أمين لأدق التفاصيل. من غيرها يتذكر كم تحب الشوربة خفيفة الملح؟ ومن غيرها يعرف أنك لا تستطيع النوم إلا بوسادتك التي تحمل رائحتها؟
إن حنان الأم ليس شيئًا يمكن تدريسه في الكتب أو حفظه في المقررات. هو شيء يُزرع في القلب مثل شجرة زيتون، لا تنكسر أمام الرياح، ولا تفرط في عطائها. عندما تحتضنك أمك، تشعر أنك في مكانك الصحيح، مهما كان عمرك أو موقعك أو مشاكلك. هي الوحيدة التي تنظر إليك وكأنك لم تكبر يومًا، وكأنك ما زلت ذاك الطفل الذي نام على ركبتها بعد أن بكى طويلاً من دون سبب وجيه.
أما دفء الأم… فهو لا يشبه أي دفء آخر. ليس دفء غطاء، ولا حرارة بيت، بل دفء شعوري ينفذ إلى العظم، يجعلك تستكين ولو كنت وسط عاصفة. ربما لهذا السبب، يمرض الأبناء عندما تغيب الأم، لا لأنهم لا يأكلون، بل لأن شيئًا جوهريًا اختلّ في كيمياء الروح. قد تنسى موعدًا طبيًا، أو اختبارًا مدرسيًا، لكنك لن تنسى صوت أمك وهي تقول: “لبّس مزيان، راه البرد نازل.”
ثم هناك تلك المعجزة اليومية التي لا يتحدث عنها أحد بما يكفي: كيف تجمع الأم أبناءها رغم اختلافاتهم، طباعهم، ومشاويرهم في الحياة؟ كأنها تمسك بخيوط خفية لا يراها غيرها، تلمّ الشمل بقطعة حلوى، أو طبق “كُسكُس” يوم الجمعة، أو برسالة صوتية تقول فيها فقط: “فينكم؟ توحشتكم.”
وبهذه الكلمات، يذوب الكبرياء، وتذوب المسافات، ويعود الجميع إلى المائدة التي صنعتها أناملها، تمامًا كما كانت تفعل منذ سنوات، عندما كان البيت صغيرًا، والمائدة مستديرة، والضحكات كثيرة.
الأم لا تنام، أو تنام نصف نوم، بأذن نصف مفتوحة، وقلب نصف مستعدّ لكل طارئ. تحب بصمت، وتقلق بصمت، وتدعو لك حتى وأنت تخونها بنسيان بالغياب الطويل. لا تغضب كثيرًا، وحتى إن غضبت، فإن غضبها لا يدوم أكثر من ساعة، إلا إذا كانت “مغيورة عليك”، فحينها تأخذ الأمور بجدية، لأن الحب حين يصدر من أم، لا يعرف المزاح.
ورغم كل هذا، قلّ من يسأل الأم: “واش أنتِ لاباس؟”، قلّ من يربّت على كتفها، أو يقول لها ببساطة: “شكرا على أنك موجودة.”، لأننا – خطأً – نعتقد أنها ستبقى دومًا، وستفهم دومًا، وستسكت دومًا عن ألمها حتى لا نقلق.
لكن الحقيقة أن الأم ليست سوبرمان. هي تتعب، وتحزن، وتحتاج أيضًا إلى كلمة طيبة، إلى حضن بالمقلوب، إلى رسالة تقول: “كلشي بخير، نتي تاج الراس.”
وإذا كانت الأم تحضن أبناءها، وتلمّ شتاتهم، فمَن الذي سيحضنها حين تكبر؟ من سيضع بطانية على ساقيها وهي تشاهد مسلسلاتها القديمة؟ من سيعيد لها ذكرياتها التي نُسيت في صخب العالم؟
إن أعظم استثمار في الحياة ليس المال، ولا السفر، ولا النفوذ، بل دعوة صادقة من أم، تخرج من قلبها وهي لا تدري أنك تسمعها، فتصعد إلى السماء بسرعة البرق، لتغيّر مجرى يومك، وربما مجرى قدرك.
فلتَحتَفِ الأم، ليس فقط في عيدها، بل في كل يوم. لأن كل يوم تُشرق فيه وهي معنا، هو انتصار صغير ضد الوجع، وضد الوحدة، وضد النسيان.
حين تضيع الأم، لا نضيع وحدنا… بل تضيع معنا تفاصيل الحياة. يصبح البيت بلا رائحة، كأن المطبخ فقد صوته، والمائدة لم تعد تنتظر أحداً. يبهت لون الوسائد، وتذبل النباتات في الزوايا، ويصير الحنين ضيفاً دائماً لا يغادر. الأم ليست فقط من كانت تضع الغطاء فوقنا ونحن نيام، بل من كانت تغطي عيوب العالم بابتسامتها. كانت تسكت الألم بلمسة، وتردع القلق بدعاء، وتنثر الأمان في كل ركن من أركان العمر.
حين ترحل، يصبح الشتاء أكثر برودة، والعيون أكثر غباراً. نبدأ في ملاحقة الصور القديمة، نُكبّر الصوت في الفيديوهات، نُصغي جيداً للهمسات التي خلّفتها في الذاكرة، ونرجو لو أننا قلنا “أحبكِ” أكثر، أو صمتنا أقل حين كانت تنصح، أو التقينا بها دون تأجيل.
غياب الأم لا يُعوّض، لأنه غياب الأصل، والنبض، والمأوى الذي لا يحتاج جدرانًا. نكبر فجأة حين ترحل، لكننا نصغر من الداخل، كأن أرواحنا انكمشت تبحث عن حضنها الدافئ فلا تجده.
تبقى صورتها مطبوعة في كل دعاء، في كل دمعة هاربة، في كل لحظة نحتاج فيها إلى يد تمسك بنا دون شروط. نعم، تمضي الأمهات… لكن أثرهنّ لا يرحل. يظل عطرهنّ في الذاكرة، وأثر أقدامهنّ في القلب، وضوء دعائهنّ حبل نجاة في ظلام الحياة.




