“الإرهاب الفكري” من 1949 إلى اليوم: عندما تُصبح حرية التعبير حكرًا على نخبة تتقن المنع باسم التقدُّمية
قراءة موجزة في كتاب جان سيفيليا Jean Sévillia

ضربة قلم
منذ سنة 1949، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، شهدت فرنسا تحولًا ثقافيًا عميقًا، حيث بدأ المثقف اليساري يتسلل إلى مواقع القرار الإعلامي والفكري، مؤسسًا لما يمكن أن نسميه لاحقًا بـ”جمهورية الرأي الواحد”.
هذه النخبة، التي حملت شعارات التقدمية والحرية والعلمنة، سرعان ما نصّبت نفسها حارسة للضمائر، وراعية لما هو مسموح وممنوع من القول والتفكير.
الصحفي والكاتب الفرنسي جان سيفيليا (Jean Sévillia)، في كتابه الجريء “Le Terrorisme Intellectuel” (نُشر سنة 2000)، يُقدّم قراءة ناقدة بل وساخرة لهذا الواقع، ويكشف بأسلوب رصين كيف أن حرية التعبير تحوّلت في فرنسا – بل في الغرب عمومًا – إلى حرية مشروطة بموافقة النخبة الثقافية.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي، أصبح من الطبيعي أن تُتهم بالرجعية إن دافعت عن التاريخ المسيحي لأوروبا، أو أن تُرمى بالظلامية إن عبّرت عن مواقف محافظة، أو أن تُلغى أكاديميًا فقط لأنك تحفظ للتقاليد بعض الاحترام.
الإرهاب الناعم: لا سجون ولا رصاص… فقط احتقار علني وتهم جاهزة
سيفيليا لا يتحدث عن ديكتاتوريات عسكرية، بل عن نوع آخر من الديكتاتورية:
ديكتاتورية الأفكار المقبولة.
حيث يتحكم الإعلام، والجامعات، وبعض المنظمات الحقوقية، في رسم حدود النقاش. فإن خرجت عن النص… فأنت متطرف، معادٍ للديمقراطية، وقد تكون خطرًا على السلم الاجتماعي!
والمفارقة أن أكثر من يُمارس هذا الإرهاب المعنوي هم أول من يرفع شعارات “الانفتاح” و”التعددية”، ما جعل المؤلف يصفهم، بتهكم عميق، بأنهم “أوصياء على الحرية… ما دامت تخدم مشروعهم الإيديولوجي.”
من 1968 إلى اليوم: مسيرة طويلة من تجريم التفكير المستقل
الكتاب لا يكتفي بالنقد الراهن، بل يعود بالتأريخ إلى محطات مفصلية:
ثورة ماي 1968، التي رُفعت فيها شعارات “يُمنع المنع”، لكن نتج عنها لاحقًا جيل جديد من النخب يرفض أي فكر مغاير.
صعود اليسار الثقافي، وتهميش كل قراءة مغايرة للتاريخ الفرنسي، خاصة حين تتعلق بالمسيحية أو الهوية القومية.
تسارع علمنة المجتمع إلى حد بات فيه مجرد الحديث عن الدين في الفضاء العام يُعد رجعية.
وبوصولنا إلى الزمن الحاضر، أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي أدوات فعالة لـ”الإرهاب الفكري”، حيث قد يُلغى كاتب أو مفكر بالكامل بسبب جملة خارج السرب.
خاتمة بنبرة عاقلة وساخرة: تفكير بإذن مسبق؟
جان سيفيليا، في كتابه “الإرهاب الفكري”, لا يطلب شيئًا أكثر من حق التفكير بحرية، حتى ولو كان ذلك خارج النسق السائد.
يقول بلغة مباشرة:
“ليس الهدف من حرية التعبير أن تُقال الأفكار المريحة، بل أن نسمح بقول ما يُزعج أيضًا.”
لكن يبدو أن القاعدة الجديدة أصبحت:
“فكّر كما نشاء… أو اصمت بأدب!”
وهو ما يجعل القارئ يضحك بحسرة: فقد تحوّل “الإرهاب الفكري” إلى نوع من “الرأي البوليسي”، لا يضعك في السجن، بل يُسجنك في صمتك، ويُلغيك من دائرة الشرعية لمجرد أنك لا تُغني مع الجوقة.