الرأي

الإصلاح يبدأ من الإنسان: حين يكون الضمير أقوى من القوانين

عائشة خشابة

في كل مرة نهتز فيها على وقع أزمة، أو نكتشف خللاً جديداً في منظومتنا الاجتماعية أو السياسية، نهرع، بعفوية أو عن وعي، إلى البحث عن متّهم نعلّق عليه خيباتنا. مرة نحمّل المسؤولية للحاكم وكأنه وحده من يرسم ملامح مصيرنا، ومرة نعاتب الوزير الذي لم يفِ بوعوده، وأخرى نُدين المجتمع بأكمله، وكأننا لسنا جزءاً منه. غير أننا نغفل، في غمرة الغضب والتبرير، عن حقيقة بسيطة: هؤلاء جميعاً  -الحاكم والوزير والعامل والمعلّم- ليسوا إلا أفراداً مثلنا، يعكسون ما نحن عليه من قيمٍ وسلوكيات، ويجسدون على مستوى السلطة ما نمارسه نحن في حياتنا اليومية على مستوى الشارع.

لو أن كل فردٍ في مجتمعنا العربي أدّى واجبه كما يجب، بإخلاصٍ ومسؤولية، ولو أتقن عمله كما لو كان خدمة للوطن لا وسيلة للرزق فقط، ولو ربّى أبناءه على الصدق والانضباط واحترام القانون، لكانت أحوالنا غير هذه التي نعيشها. لكانت مؤسساتنا أكثر شفافية، ومدارسنا أكثر عدلاً، ومستشفياتنا أكثر إنسانية. لكن الواقع المرّ يخبرنا بعكس ذلك. المواطن الذي يرمي القمامة من نافذة سيارته، والبائع الذي يغشّ في سلعته، والمسؤول الذي ينهب المال العام دون خجل، والطبيب الذي يجعل الربح أولاً وصحة المريض ثانياً… كلّهم يعكسون خللاً عميقاً في الضمير، قبل أن يكون الخلل في النظام أو القوانين.

الفوضى التي نراها في شوارعنا ليست صدفة، بل مرآة تعكس عاداتنا اليومية. البطالة ليست فقط نتيجة غياب المشاريع، بل أيضاً نتيجة غياب روح المبادرة والانضباط. ضياع الحقوق ليس قدراً مكتوباً، بل ثمرة لثقافة تبرئة الذات وإلقاء اللوم على الآخر. إننا نعيش في دائرة مغلقة من التهرب من المسؤولية: المواطن يتهم الدولة، والدولة تتهم المواطن، وبين الاتهامين تضيع الحقيقة.

الحقيقة أن الفساد لا ينزل من السماء ولا يولد في المكاتب العليا فقط، بل يتسلل من تصرفاتنا الصغيرة حين نبرر الخطأ أو نغضّ الطرف عن الغش أو نمارس الأنانية باسم “الضرورة”. كل رشوة صغيرة، وكل تهاون في الواجب، وكل كذبة نعتبرها “بيضاء”، تشكل لبنة في بناء الفساد الكبير الذي نشكو منه.

فلنجرب، ولو مرة واحدة، أن نوجّه أصابع الاتهام نحو أنفسنا قبل غيرنا. لنسأل بصدق: كم منا يؤدي عمله بأمانة حتى حين لا يراقبه أحد؟ كم أسرة ربّت أبناءها على حب الوطن لا على المصلحة؟ كم مواطناً يعتبر الشارع ملكاً عاماً وجزءاً من بيته؟

عندما نمتلك الشجاعة لنجيب على هذه الأسئلة دون تزييف، سنكون قد بدأنا أولى خطوات الإصلاح الحقيقي. فالأمم لا تنهض بالتشريعات وحدها، بل بضميرٍ حيّ يوجّه السلوك قبل القانون. إن النهضة ليست مشروعاً حكومياً بقدر ما هي مشروع إنساني يبدأ من داخل كل واحدٍ منّا.

حين يُصلح كل فردٍ نفسه، ويستعيد ضميره مكانه الطبيعي، ستُصلح الأمة نفسها تلقائياً. فالإصلاح الحقيقي لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من الداخل… من الإنسان أولاً، لأنه هو أصل الداء وهو أيضاً مفتاح الدواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.