الاحتفال بالذكرى العشرين لجوق الموسيقى الأندلسية المغربية بقيادة المايسترو محمد العثماني: رحلة فنية في صون التراث وإبداع موسيقي متجدد

ناصر الفضالي
في أجواء موسيقية راقية، احتضن المركب الثقافي أنفا بمدينة الدار البيضاء ليلة فنية استثنائية احتفاءً بمرور عشرين عامًا على تأسيس جوق الموسيقى الأندلسية المغربية بقيادة المايسترو محمد العثماني، أحد الأسماء اللامعة في مجال الحفاظ على التراث الموسيقي المغربي الأصيل. السهرة، التي نظمتها جمعية صورة للتراث الثقافي برئاسة السيدة نادية أقرواش يوم الجمعة 21 من الشهر الجاري، شكلت محطة هامة في مسيرة هذا الجوق العريق، حيث التقت الأصالة بالإبداع في عرض استثنائي ضم كوكبة من ألمع العازفين والمطربين المغاربة، وعلى رأسهم الديفا بهاء الروندة، التي أضفت على الأمسية رونقًا خاصًا بصوتها العذب وأدائها المتقن.
لم تكن هذه السهرة مجرد احتفالية عابرة، بل كانت تتويجًا لمسار طويل من العمل الجاد والمثابرة في خدمة الموسيقى الأندلسية المغربية، التي تمثل إحدى الركائز الأساسية للهوية الثقافية والفنية للبلاد. فمنذ تأسيسه، استطاع جوق محمد العثماني أن يرسخ مكانته كواحد من أبرز الفرق الموسيقية المتخصصة في هذا اللون، مقدمًا عروضًا موسيقية وازنة داخل المغرب وخارجه، حيث جال بمشروعه الفني عبر العديد من العواصم العالمية، من نيويورك ولوس أنجلس إلى باريس وفوينلابرادا، ومن الشام وحلب إلى برلين والمنستير والقاهرة وإيفورا، وغيرها من المدن التي احتضنت عروضه التي حملت بصمة مميزة في تقديم الموسيقى الأندلسية المغربية بتوزيعات حديثة دون المساس بأصالتها.
ولم يقتصر دور الجوق على العروض الحية، بل ساهم بشكل فعّال في إثراء المكتبة الموسيقية المغربية من خلال إصدارات قيمة، حيث ألف المايسترو محمد العثماني عددًا من الأعمال التي تتناول الموسيقى الأندلسية المغربية والجزائرية، بالتعاون مع باحثين وفنانين من بلدان مغاربية، من بينهم السيدة نوال قديري من الجزائر. كما أنجز عملًا توثيقيًا بعنوان “نوبة الاستهلال أنغام وأعلام برواية الشيخ الحاج عبد الرحيم العثماني”، في خطوة تهدف إلى حفظ هذا التراث ونقله للأجيال القادمة وفق قواعده الأصلية.
ويواصل العثماني جهوده في هذا المجال من خلال مشروعه الجديد “أنطولوجيا جوق العثماني لتوثيق موسيقى الآلة بالمغرب”، وهو عمل ضخم سيصدر على شكل أجزاء نظرًا لحجم الربرتوار الموسيقي الأندلسي المغربي وما يحتاجه من إمكانات مادية ولوجستية كبيرة. كما يستعد لإصدار مؤلف جديد باللغة الفرنسية موجه للمهتمين بالتراث، تحت عنوان Les précieuses mayazines de la musique Andalouse، والذي من المتوقع أن يشكل إضافة نوعية للمكتبة الموسيقية العالمية.
إلى جانب الإنتاج الموسيقي والتوثيقي، يعمل العثماني على نشر الموسيقى الأندلسية عبر وسائط إعلامية مختلفة، حيث شارك في تسجيلات تلفزيونية مع عدد من البرامج الوازنة التي تعنى بالموسيقى الراقية، مثل برنامج “ألحان عشقناها” للباحث الأستاذ عبد السلام الخلوفي، و”صدى الإبداع” الذي يشرف عليه الشريف إدريس الإدريسي، و”60 دقيقة للفن” للإعلامي المميز حسام الدين ناصر. كما سجل مجموعة من الحلقات لقناة محمد السادس للقرآن الكريم، تحت عنوان “أنفاس المغاربة في الصلاة على النبي”، بإشراف الدكتور محمد التهامي الحراق، وهي تسجيلات تبرز الأبعاد الروحية والفنية العميقة لهذا اللون الموسيقي.
وفي سياق التجديد الموسيقي، قدم العثماني تجربة فريدة أثارت إعجاب كبار الموسيقيين المغاربة والعالميين، حيث قام بتوزيع أوركسترالي لميزان درج الاستهلال، وهو أحد المقاطع الموسيقية الأندلسية ذات الحمولة التاريخية والفنية الكبيرة. هذا العمل لقي استحسان شخصيات وازنة في عالم الموسيقى، مثل المبدع الموسيقار لحلو نعمان والعازف العالمي نصير شمه، مما حفز العثماني على التعمق أكثر في دراسة علم الهارموني، الذي حصل على دبلوم فيه هذا العام، في خطوة تؤكد حرصه على مواكبة التطورات الأكاديمية والفنية في المجال الموسيقي.
ويرى محمد العثماني أن طريق الفن الجاد والرصين ليست مفروشة بالورود، بل تتطلب الكثير من الصبر والاجتهاد والتكوين العلمي المستمر، مشددًا على أن حماية هذا التراث العريق تحتاج إلى جهود جماعية تجمع بين الفنانين والباحثين والمؤسسات الثقافية، لضمان استمرارية هذه الموسيقى ومد جسور التواصل بينها وبين الثقافات الموسيقية الأخرى التي تتقاطع معها في الجذور والامتدادات التاريخية.
وقد اختتمت السهرة بتصفيقات حارة من الجمهور الذي تفاعل مع العرض المتميز الذي حمل عنوان “سفر في طبع الصيكة”، وهو عنوان يعكس التنوع الموسيقي الذي طبع هذا الحفل، حيث قدم الجوق مختارات أندلسية، غرناطية، شعبية، وشكورية، في مزج متقن يبرز مدى الترابط بين مختلف أنماط الموسيقى المغربية.
وفي ختام هذه التظاهرة الفنية، وجّه المايسترو العثماني شكره العميق لكل من ساهم في إنجاح هذه الاحتفالية، سواء من الإعلاميين الذين رافقوا الحدث، أو أعضاء لجنة التنظيم، أو الجمهور الوفي الذي لبى النداء وحضر بأعداد غفيرة، ليؤكد مرة أخرى أن الموسيقى الأندلسية لا تزال تحظى بمكانة خاصة في وجدان المغاربة، وأنها قادرة على مواصلة مسيرتها رغم كل التحديات، بفضل جهود فنانين مخلصين لقضيتها، وعلى رأسهم محمد العثماني، الذي يواصل رحلته في خدمة هذا الفن العريق بكل شغف وإبداع.