
ضربة قلم
يعيش المغرب اليوم واحدة من أعقد لحظاته السوسيولوجية، مرحلة يُسميها الباحثون “الانتقال الديمغرافي”، لكنها في عمقها ليست مجرد أرقام ونسب، بل تحول هائل في ميزان المجتمع: مجتمع شبابه كثيرون، لكنهم غائبون عن المشهد؛ ومسؤولوه كبار في السن، لكنهم متشبثون بالمقاعد.
فكيف يمكن لبلدٍ أكثر من نصف سكانه دون الثلاثين أن تُدار مؤسساته بعقليات تشبه سبعينيات القرن الماضي؟
كيف يمكن لشبابٍ يكتبون مستقبلهم في “ريل” أو “تويت”، أن يقتنعوا بخطاب سياسي ما زال يتحدث بنفس اللغة الخشبية التي أرهقت آباءهم؟
الانتقال الديمغرافي.. نعمة أم قنبلة مؤجلة؟
يشير علماء الاجتماع إلى أن المغرب دخل منذ سنوات مرحلة “التحول الديمغرافي”، انخفاض في الخصوبة، ارتفاع في متوسط العمر، وتضخم في فئة الشباب.
لكن بدل أن يكون ذلك مكسبًا استراتيجياً، تحوّل إلى تحدٍ وجودي:
شباب متعلمون، متصلون بالعالم، يملكون أدوات التعبير، لكنهم يشعرون بالعزلة داخل وطنهم.
الأحزاب تتحدث عنهم كما يتحدث المزارع عن موسمٍ جيد لم يأتِ بعد. تُنظم المؤتمرات والندوات تحت شعارات “الجيل الجديد”، لكن حين تُوزع المناصب، تُعاد نفس الوجوه إلى الواجهة، كأن السياسة عقدٌ أبديّ لا يُورَّث إلا بالولاء.
الانتقال الديمغرافي في المغرب يعني -بلغة الأرقام- أن الشباب هم القوة الكبرى الكامنة. لكن بلغة الواقع، هم القوة الصامتة. لا يصوتون، لا يترشحون، لا يثقون.
وحين يُسألون عن السياسة، يجيبون بابتسامة مُرة:
“واش تبدّل شي حاجة؟”
سياسة بعقلية قديمة في مجتمع جديد
السياسة في المغرب ما زالت تُدار بذات الأدوات: الزعيم، البيان، الصورة، التجمع الخطابي، ووعود “الإصلاح”.
لكن الجيل الجديد لا يعيش في عالم البيانات والوعود، بل في عالم الشفافية الفورية: كل وعد يُراجع، كل خطأ يُوثق، وكل سطر يُقارن.
جيل “اللايف” لا يحتاج من يُخبره بما يجري، بل من يُقنعه أنه ما زال يستحق أن يحلم.
وهنا تكمن المعضلة الكبرى:
فحين يُقصى الشباب من القرار، لا يبقى في الساحة سوى من يُجيد فن البقاء.
الأحزاب تُعيد تدوير نفس الأسماء، نفس الوجوه، نفس الخطابات، بينما الشباب يُعيدون تدوير خيبتهم على “تيك توك”.
الانتقال الديمغرافي لا يرحم الدول التي تُهمل طاقاتها. فكل جيل غير مستثمر يتحول إلى عبء اقتصادي وسياسي، إلى جيل عاطل، ساخط، ناقم على المؤسسات.
وهذا ما يحدث اليوم تدريجيًا في المغرب، حيث تحولت المسافة بين الشباب والسياسة إلى وادٍ سحيق:
من جهة، شباب يرفضون الخطاب الرسمي؛ ومن جهة أخرى، نخبة سياسية لا تفهم لغتهم ولا أدواتهم.
من الديمقراطية إلى “الديموغرافية”
حين نتحدث عن الديمقراطية في المغرب، علينا أولاً أن نتحدث عن الديموغرافية.
لا يمكن بناء مشاركة سياسية حقيقية دون إدماج الكتلة الشبابية التي تشكل أغلبية الشعب.
لكن السؤال الأعمق: هل تريد السلطة فعلًا أن يُشارك هؤلاء الشباب؟
فالمشاركة السياسية لا تُقاس بعدد “الشباب” في الصور الرسمية، بل بعدد الأصوات الحرة في الصناديق، وعدد الأفكار التي سُمِح لها بأن تتنفس.
إنها ليست “كوطا شبابية”، بل ثقة مجتمعية تُبنى بالاحترام لا بالوصاية.
اليوم، يبدو المشهد كالتالي:
-
شباب يبحث عن معنى.
-
أحزاب تبحث عن جمهور.
-
ودولة تبحث عن توازن بين الاثنين دون أن تغضب أحداً.
لكن إلى متى؟
لأن الزمن الديمغرافي لا ينتظر القرارات السياسية البطيئة.
التحول حاصل، سواء فكر الساسة أم لم يفكروا.
شباب في الهامش.. ووطن في المفترق
هذا الجيل الذي يعيش نصفه بين اليأس والأمل، بين الهجرة الرقمية والحلم الواقعي، لا يريد ثورة ولا صداماً، بل يريد مكاناً بسيطاً في وطنٍ يسمعه.
يريد تعليماً لا يهينه، وفرصاً لا تُغلق أبوابها بالوساطة.
يريد أن يشعر أن السياسة ليست لعبة كبار تُدار في الكواليس، بل أفقٌ مفتوح يشارك فيه الجميع.
لكن الواقع يُخبره العكس:
أن القرارات تُتخذ في الأعلى، وأن المستقبل يُرسم دون حضوره.
لذلك، حين تُنظم الانتخابات، لا يذهب إلى التصويت. ليس لأنه لا يهتم، بل لأنه لم يعد يؤمن.
الخلاصة: شبابٌ بلا صوت = سياسة بلا حياة
الانتقال الديمغرافي ليس مجرد رقم في تقارير البنك الدولي، بل جرس إنذار سياسي.
فحين يتحول الشباب من قوة دافعة إلى كتلة هامدة، تفقد الدولة مستقبلها البشري والسياسي في آنٍ واحد.
والمعادلة بسيطة حد القسوة:
إذا لم تفكر السياسة بعقل الشباب، فسيفكر الشباب خارج السياسة.




