الانهيار الصامت: حين تتحول البيوت إلى مقابر للمشاعر

ضربة قلم
الأسرة التي كانت ملاذًا ومصدرًا للدفء تحولت اليوم إلى جدار بارد يصدّ المشاعر ويكتم الأصوات. ما الذي حدث؟ كيف انقلب البيت من حضن آمن إلى ساحة صراع صامت؟ نحن لا نتحدث عن خلافات عابرة أو مشاكل عائلية معتادة، بل عن انهيار بطيء يزحف كالسّم في العروق. في كل زاوية من البيت، صمت كثيف، وجوه متعبة، قلوب مغلقة، وأرواح تبحث عن منفذ تتنفس منه.
الأب يدفن وجهه في شاشة هاتفه كأنها نافذته الوحيدة على العالم، بينما ينسى أن العالم الحقيقي يجلس أمامه ويذبل ببطء. الأم التي كانت قلب البيت النابض غارقة في دوامة العمل وضغط الحياة، حتى صار وجهها مرآة للإنهاك، لا وقت لديها لتقرأ صمت أبنائها أو لترمم الشقوق التي تتسع يومًا بعد يوم. الأبناء يتيهون بين جدران البيت وكأنهم غرباء تحت سقف واحد، عيونهم تلمع بالخذلان أكثر مما تلمع بالبراءة. الكلمات القليلة التي تُقال بين أفراد الأسرة صارت روتينًا فارغًا بلا دفء ولا معنى، أما المشاعر فتُدفن حيّة خلف جدار من الصمت.
التكنولوجيا التي بشّرونا بها كجسر للتقارب تحولت إلى خنجر حاد يقطع آخر خيوط التواصل الحقيقي. كل فرد يعيش في جزيرته الخاصة، يتحدث مع شاشات باردة بينما تنطفئ الأرواح القريبة بجواره. البيت فقد روحه، صار مجرد محطة للنوم، مكان يعبره الجميع دون أن يتركوا فيه جزءًا من قلوبهم. وحتى حين يلتقون، يجلس كل واحد منهم محاطًا بأسواره الداخلية، لا يجرؤ أحد على كسر الصمت لأن الجميع اعتادوا عليه حتى صار جزءًا من هواء البيت.
هذا الانهيار الصامت لا يقتل اللحظة فقط، بل يسرق المستقبل. أطفال يكبرون في فراغ عاطفي، يحملون ندوبًا لا تُرى، لكنها تنزف لسنوات. صغار يتعلمون أن الحب لا يُقال، أن العاطفة ضعف، أن الكلام عبء. يكبرون وهم يفتقدون الأمان الداخلي، يبحثون عنه في طرق ملتوية، في عزلة خانقة أو تمرد عدواني أو في أحضان وهمية خارج البيت. كل ذلك لأن من كان يجب أن يحتضنهم كان مشغولًا بالعالم الخارجي وترك قلوبهم تتآكل من الداخل.
الغضب هنا ليس على التكنولوجيا ولا على ضغوط الحياة وحدها، بل على الاستسلام الجماعي لهذا الموت البطيء للعلاقات. نحن الذين سمحنا للأسرة أن تتحول إلى مجرد شكل بلا روح، إلى صور عائلية مبتسمة تخفي وراءها خرابًا صامتًا. نحن الذين اخترنا الصمت لأن الكلام موجع، والابتعاد لأنه أسهل من المواجهة، حيث الشاشات أقل قسوة من النظر في عيون بعضنا.
إذا لم نصرخ الآن، إذا لم نهدم هذا الجدار السميك الذي بنيناه بأيدينا، فسنجد أنفسنا أمام بيوت جميلة من الخارج، لكنها مقابر للمشاعر من الداخل. البيوت لا تنهار حين تسقط الجدران، بل حين يُهدم آخر جسر بين القلوب. والكارثة أننا نحن من نحمل المعاول، ونحن من نصنع هذا الانهيار الصامت بأيدينا كل يوم.





https://shorturl.fm/cM8dU