
ضربة قلم
المخزن، يا سادة، ذاك الكائن الأسطوري الذي لا يُرى بالعين المجردة، لكنه حاضر في كل شيء: في الهواء، في الماء، في نشرات الأخبار، وفي الدعاء الذي يختم به المواطن يومه: اللهم ارزقنا مخزنًا رحيماً!
هو موجود في القوانين التي لم تُكتب بعد، وفي القرارات التي لم تُتخذ بعد، وفي الأخطاء التي نرتكبها قبل أن نفكر فيها.
المخزن يحب أن يضحك، لا ضحكاً خفيفاً مهذباً كما نفعل نحن البشر العاديين، بل ضحكاً صاخباً، يفتح له فمه حتى يظهر ناب الفم، ويصفق له من حوله إعجاباً، كأنهم يشهدون على لحظة تجلٍّ سياسي.
هو يضحك حين يرفع الأسعار، ويضحك أكثر حين يخرج الوزير في التلفزيون ليقول: “الإصلاح مؤلم لكنه ضروري”، وكأن الوطن في عيادة جراحة تجميلية فاشلة.
ولأن المخزن يعرف أبناءه جيداً، فهو يحب المسؤول الذي يدخل البرلمان بشهادة “شبعان سوابق”. ذلك النوع من السياسيين الذين جربوا كل شيء: من الرشوة إلى السمسرة، من بيع الذمم إلى تلميع الأحذية السياسية.
المخزن يحب “المجرب”، لأنه يضمن أنه لن يجرّب ضميره مرة أخرى.
ثم هناك الوزير البهلوان، ذاك الذي تمر عليه التعديلات وتمر أيضا فوقه “الدكاكة” فيضحك. لا يشعر بشيء إلا بعد أن يُقال من منصبه، فيخرج ليحاضر عن الشفافية والنزاهة كأننا أصبنا بفقدان الذاكرة الجماعي.
يُطرد من الباب فيحاول العودة من النافذة، لكنه سيحمل -لا محالة- حقيبة جديدة ويهاجر دون عودة.
أما الزعيم السياسي، فحدّث ولا حرج. إنه تاجر من نوع خاص، لا يبيع البصل ولا الطماطم، بل يبيع التزكيات!
سوقه رائجة في موسم الانتخابات، والسعر؟
ليس بخسًا كما يظن البسطاء، بل يبدأ من 200 مليون سنتيم ويصل إلى 300 مليون سنتيم، حسب المقاس والموقع، دون ما يترتب عن الزبون من عدد الأصوات التي يمكن شراؤها في الحملة.
تزكية “برونزية” للمبتدئين، “فضية” للوجوه المعروفة، و”ذهبية” لأولئك الذين يجيدون فنّ القبلات في الاجتماعات السرّية.
وهكذا يتحول العمل الحزبي إلى بورصة، شعارها: “ادفع تُصبح مناضلاً، ادفع أكثر تُصبح برلمانياً.”
والمخزن في كل هذا، لا يغضب ولا ينفعل، بل يجلس في مقعده الوثير، يحتسي قهوته ببطء، يراقب المشهد ويبتسم.
يبتسم حين يرى الوطن يُدار مثل مسرحية طويلة مملة، كل ممثل فيها يحلم أن يُصفّق له الجمهور، بينما المخرج يعرف أن النهاية مكتوبة سلفاً.
وعندما يسأله أحد الصحافيين يوماً:
ـ “سيدي، ألا تخافون من الشعب؟”
يرد بابتسامة مطمئنة:
ـ “الشعب؟ ذلك الجمهور الذي يصفق في نهاية كل عرض، حتى لو لم يفهم القصة.”
ثم يضيف وهو يضحك حتى يظهر ناب الفم:
ـ “دعهم يصفقون… ما داموا يصفقون، فنحن بخير.”
وهكذا يستمر العرض. تتبدل الحكومات، وتتغير الأزياء، ويتطور الماكياج السياسي، لكن الضحكة نفسها لا تتغير، لأنها ضحكة من يعرف أن المسرح ملكه والجمهور أيضاً.




