مجتمعسياسة

التضبيع في زمن المجازر: حين يصبح القاتل ضحية والضحية إرهابياً!

ضربة قلم

ما يجري في فلسطين ليس مجرد نزاع مسلح أو صراع حدودي يمكن اختزاله في بيانات دبلوماسية جوفاء أو تغطيات إعلامية مشروطة بمصالح القوى الكبرى، بل هو جريمة مستمرة، إبادة مبرمجة تمضي أمام أعين عالم متواطئ بالصمت، وعالم آخر مشارك بالفعل، إما بالسلاح والتمويل، أو بتكميم الأفواه، أو بالترويج لسرديات وقحة تحاول أن تجعل من القاتل ضحية ومن الضحية مجرماً.

حين نؤكد أننا مع السلم، فإننا لا نقصد السلم الذي يراد لنا أن نقبل به، ذاك السلم الزائف الذي يُطلب من الفلسطيني أن يذعن له مقابل استمرار حياته تحت الاحتلال، أو مقابل وقف إطلاق النار بشروط تُمليها الآلة العسكرية التي تمحو أحياءً بأكملها من الخريطة وتفتك بالمدنيين دون أدنى إحساس بالذنب. السلم الذي نؤمن به هو ذلك القائم على العدالة، على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وليس السلم القائم على إذعان الضحية وترك الجلاد يستعرض قوته بلا رادع.

ازدواجية المعايير: ماذا لو كانت إسرائيل هي الضحية؟
يكفي أن نتخيل للحظة واحدة أن ما يجري في غزة يجري في تل أبيب أو أي مدينة أخرى خاضعة للسيادة الإسرائيلية، كيف سيكون رد الفعل الدولي؟ كيف ستتسابق القوى الكبرى لفرض عقوبات عابرة للقارات، وكيف ستتحرك المنظمات الدولية التي تبتلع ألسنتها حين تكون المجازر من نصيب الفلسطينيين؟ لن يتردد أحد في استخدام مصطلحات مثل “الإبادة”، و”الجرائم ضد الإنسانية”، وسيقف زعماء العالم صفاً واحداً في مؤتمرات صحفية عاجلة، يعلنون عن تسليح إسرائيل ودعمها ضد “المعتدي”. هذا ليس افتراضاً نظرياً، بل حقيقة أثبتها التاريخ القريب، حيث شُنّت حروب مدمرة لأجل جندي واحد أُسر أو بسبب عملية مقاومة محدودة، بينما يتم ذبح آلاف الأطفال الفلسطينيين بدم بارد، فلا يصدر من “العالم المتحضر” سوى بيانات قلقة، ومطالبات لا قيمة لها بوقف العنف، وكأن ما يحدث ليس مجازر موثقة بالصوت والصورة بل مشاهد من فيلم خيال علمي!

حين يتحدث “ولد العريان” باسمنا جميعاً
في وسط هذا الخراب، يخرج علينا البعض بخطاب انهزامي مشبع بالتضليل، يدعو إلى ما يسمى “الحياد”، أو يحاول أن يضع الطرفين في كفة واحدة، متناسياً أن هناك احتلالاً وجيشاً مسلحاً بأحدث التقنيات يقصف بيوت المدنيين، وفي المقابل شعب محاصر يقاتل لأجل بقائه. ثم نجد من يزايد علينا بشعارات براقة لا تحمل أي مضمون، مثل “كلنا نثنون”، أو أي عبارات مشابهة ترددها أبواق فقدت كل اتصال بالواقع. هؤلاء لا يمثلون إلا انتهازيتهم المفضوحة، أو الجهات التي تشتري مواقفهم، وهم بلا شك أبعد ما يكونون عن نبض الشارع الحقيقي الذي يدرك تماماً أين الحق وأين الباطل.

الديمقراطية المباعة والتمثيل الزائف
من يتحدث باسمنا اليوم؟ مجالس منتخبة جاءت بأصوات اشتريت بالمال، وأحزاب فقدت شرعيتها الأخلاقية قبل السياسية، وإعلام فقد وظيفته الحقيقية ليصبح أداة لتبرير ما لا يُبرر. هذه الأحزاب لا تملك حق الحديث باسم الشعوب، لأنها ببساطة لا تمثل إرادتها الحقيقية. من يصدق أن شعباً يرى يومياً صور الأطفال الممزقة والمباني المدمرة، يمكن أن يقبل بالتطبيع، أو أن يقتنع بأن دعم المحتل خيار استراتيجي؟ هذه كذبة تسقط كل يوم أمام المواقف الشعبية الحقيقية، التي لم تتغير رغم كل محاولات الترهيب والترغيب.

شتان بين التضبيع والوعي
هناك فرق شاسع بين أن يكون المرء مسالماً، وبين أن يكون مروضاً ومطبعاً، كما أن هناك فرقاً بين الوعي والتضليل. الوعي هو أن تدرك أن فلسطين ليست مجرد قضية تخص شعبها وحده، بل هي مرآة تكشف مدى نفاق هذا العالم، ومدى خضوعه لقوانين القوة لا لقيم العدالة. التضليل هو أن تقبل بروايات المحتل، وأن تصدق أن القاتل يحارب “إرهاباً”، بينما كل الأرقام والشهادات والصور تؤكد أنه يمارس إبادة ممنهجة.

إلى أين؟
الرهان اليوم ليس فقط على المقاومة الفلسطينية، بل أيضاً على يقظة الشعوب التي لم تعد تقبل بأن يتم تزييف وعيها بهذه البساطة. لقد رأينا كيف بدأت الكثير من الشعوب حول العالم تدرك حجم الكذبة الكبرى التي تحاول إسرائيل تسويقها، وكيف أن توازنات القوى بدأت تتغير، ليس عسكرياً فقط، بل أيضاً على مستوى الرأي العام العالمي. هذا التغير لن يكون سريعاً، لكنه بدأ فعلاً، وسيستمر رغم كل محاولات قمعه.

السؤال ليس هل ستنتصر فلسطين؟ بل متى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.