مجتمع

التعليم الخصوصي: حين يصبح المدير “كابو” في مافيا تربوية!

ضربة قلم

الرجل المربي، خصوصًا إن كان “باطرونا” لمؤسسة تعليمية خصوصية، من المفروض أن يكون كائنًا فريدًا من نوعه، يجمع بين الحكمة والوقار والصبر واللباقة والقدرة على فهم الآخرين بروح أبوية. رجل يحمل بين جنباته تجربة عميقة في الحياة، تعلّم منها أن التربية ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة سامية، ومسؤولية تتطلب منه أن يكون نموذجًا يُحتذى به.

لكن، وهنا تبدأ الحكاية المدهشة، حين يُبتلى قطاع التعليم بطينة من البشر لم يسمعوا قط بهذه القيم، ولم يقتربوا منها إلا اقتراب الذئب من القطيع الجائع، تجد نفسك أمام نسخة مشوهة من رجل أعمال يدير مشروعًا تجاريًا لا مؤسسة تربوية. رجل بلسان أطول من ناطحة سحاب، يمارس فنون النميمة كما لو أنه حصل على دكتوراه فخرية في “الثرثرة الموجهة”، يوزّع الأحقاد كما توزع محلات البقالة الحلوى على الأطفال، ويُتقن فن التحريض كما يُتقن المايسترو قيادة الأوركسترا، حيث كل كلمة محسوبة وكل نظرة مدروسة لتأجيج الفوضى.

هذا النوع من “المربين” لا يربي أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، بل بالكاد يربي نفسه، وإن فعل فبأساليب أقرب إلى التأديب القاسي منه إلى التهذيب. تراه ينام ويستيقظ على مقالب صغيرة من نوع “ماذا يمكنني أن أفعل اليوم لإفساد حياة شخص ما؟”، رجل يعيش في حالة طوارئ دائمة، متوجسًا من كل من حوله، يعتقد أن كل همس هو مؤامرة، وكل ضحكة هي سخرية منه، وكل لقاء بين اثنين هو خطة مدبرة للإطاحة به من “عرش” المؤسسة التي يديرها وكأنها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

المثير للسخرية أنه لا يكتفي بممارسة هذه الألعاب الصبيانية داخل حدود مؤسسته، بل يذهب أبعد من ذلك، فيجعل من نفسه “محللًا استراتيجيًا” لعلاقات الناس، يراقب من يجالس من، ومن يتحدث مع من، ثم يبدأ في وضع السيناريوهات، تمامًا كما يفعل كاتب السيناريو في أفلام التجسس، مع فارق بسيط أن أفلامه تفتقر إلى أي نوع من الإثارة، بل هي أقرب إلى دراما رخيصة من الدرجة العاشرة، حيث العقدة الوحيدة فيها هي محاولة اكتشاف من يحبه ومن يكرهه.

هذا الرجل، الذي يُفترض أنه قدوة، يتحول إلى نموذج حي لكيفية الفشل في التعامل مع الناس. فهو لا يعرف معنى الاحترافية، ولا يفهم أن الاحترام هو أساس العلاقات الإنسانية، ولا يستوعب أن الكلمة الطيبة يمكنها أن تبني أكثر مما يهدمه لسانه الطويل الذي يوزع الطعنات يمينا يسارا. وهو في الحقيقة، لا يحتاج إلى أعداء، فهو أكبر عدو نفسه، يخلق لنفسه المشاكل، ويغرق في بحر من الأوهام التي يصنعها بيده، ثم يتساءل لماذا يجد نفسه معزولًا، ولماذا لا يكنّ له أحد الاحترام، ولماذا ينفضّ الناس من حوله كما تنفض الرمال عن الثوب.

لكن المصيبة الحقيقية ليست في شخصه وحده، بل في تأثيره على المؤسسة التي يديرها. فحين يكون القائد فاسدًا أو صغير العقل، فإن الفساد يصبح عدوى تنتشر بين الأفراد، والمستوى ينخفض، والجميع ينشغلون بتفادي لسانه السليط بدلًا من التركيز على العمل. فيتحول الجو العام إلى ساحة حرب باردة، حيث الولاءات تتبدل كل يوم، والتحالفات تتغير حسب المزاج، والمنافسة الوحيدة القائمة ليست على الجودة أو الإبداع، بل على من يستطيع أن ينجو من مقالب “الباطرون” بأقل الأضرار.

والأدهى من ذلك، أنه لا يرى في نفسه مشكلة. بل يعتبر كل ما يفعله جزءًا من “الإدارة الذكية”، ويظن أن المناورة والالتفاف على الناس والتشكيك فيهم هي مهارات قيادية، في حين أنها لا تعدو كونها حركات بائسة لشخص يعاني من نقص حاد في النضج العاطفي، ويحتاج إلى جلسات مكثفة في كيفية التعامل مع البشر قبل أن يُسمح له بإدارة حتى كشك لبيع الحلوى، فما بالك بمؤسسة تعليمية.

والمفارقة العجيبة أن مثل هذا النموذج غالبًا ما يكون صاحب خطاب مثالي حين يتحدث أمام الناس، يتكلم عن القيم والأخلاق والتربية كما لو كان سقراط زمانه، لكنه في الواقع مجرد ممثل فاشل، تنكشف أوراقه عند أول تعامل مباشر، حيث يظهر على حقيقته كشخص لا يجيد شيئًا سوى صناعة الأوهام وبث الشائعات وممارسة ألعاب الصغار.

فإذا وجدت نفسك يومًا في مؤسسة يديرها رجل كهذا، فاعلم أنك في “مسرح العبث”، حيث المدير هو المخرج والمؤلف والبطل والشرير في آن واحد، والجميع مجرد كومبارس في مسرحيته التافهة. فإما أن تتقن فن التملق، أو أن تجد نفسك هدفًا لنيرانه العشوائية التي لا تفرق بين الصديق والعدو. أما الحل الوحيد للنجاة، فهو أن تبحث عن مكان آخر، حيث تُدار الأمور بعقلانية، وحيث المدير ليس نسخة رديئة من شخصية شريرة في فيلم هندي قديم.

وفي النهاية، السؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ كيف أصبح بعض من يفترض بهم أن يكونوا مربين مجرد أدوات لإفساد الجو التربوي وتحويله إلى ساحة معركة مليئة بالمؤامرات والدسائس؟ وهل هناك أمل في أن نرى يومًا ما قادة حقيقيين في هذا القطاع، أم أننا محكومون بأن نعيش وسط هذه الفوضى المستمرة؟ الإجابة، للأسف، ليست بيدنا، بل بيد أولئك الذين يملكون زمام الأمور، لكن طالما أن “المسرحية” مستمرة، فلا شيء سيتغير سوى أسماء الممثلين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.