التقاعد: حين تصبح المسؤوليات الرفيعة مجرد ذكرى والأصدقاء في إجازة دائمة

ضربة قلم
كثيرة هي هواتف أناس، ولاسيما أولئك الذين يعتقدون أن الحياة كلها مجرد سلسلة من المكالمات الهاتفية التي تُحدث الفارق. هؤلاء الذين كانوا، قبل أن يتم “تحريرهم” من عبء العمل، يعيشون حياتهم في إطار مستمر من الرسائل، المكالمات، البريد الإلكتروني، والمواعيد التي لا تنتهي. كانوا يتنقلون بين الاجتماعات والعروض والاتصالات مثل حيوانات مدجنة في السيرك، غير قادرين على التوقف لأن ساعة العمل لم تكن سوى تكرار ممل لما قبلها. الحياة، بالنسبة لهم، كانت مجرد عملية استنساخ مكثفة للمهام التي لا تنتهي. ليل نهار، تجدهم يتحدثون عبر الهاتف وكأنهم جواسيس في مهمة سرية لا تعرف متى تنتهي، يتنقلون بين الأمور المهنية الشخصية والعلاقات المتشابكة في الشبكات الاجتماعية والمهنية.
لكن، ثم ماذا؟ بعد كل هذا الصخب، والضجيج الذي يملأ حياتهم، تأتي لحظة التقاعد. لحظة “التحرر” التي ينتظرها البعض بفارغ الصبر، تلك اللحظة التي تكون فيها الإجابة الوحيدة على السؤال: “كيف حالك؟” هي صمت بارد، وبطء في الكلمات. يومًا بعد يوم، يبدأ الأصدقاء المتحمسون في السابق، أولئك الذين كانوا يملؤون رسائلهم الهاتفية بالتبريك والمجاملات، في التقلص تدريجياً. تبدأ هواتفهم في الصمت، وتبدأ المكالمات التي كانت تزين أيامهم بحلول الوقت الزائف لتصبح نادرة أو غير موجودة. تُنهي المكالمة أخيرًا بعد جهد كبير، وعند هذه النقطة تبدأ النظرة إلى “التقاعد” تتحول إلى سؤال: “هل حقًا كان ذلك يستحق كل هذا؟”.
الأمر الساخر أن هؤلاء الأصدقاء المناسباتيين، الذين كانوا في أبهى حالاتهم أثناء فترة العمل الشاقة، الذين كانوا يظهرون عندما يحتاجون إلى مصلحة أو توقيع أو مساعدة، يصبحون ببساطة أشباحًا عند أول أسبوع من التقاعد، وهذا لأن معاييرهم عن “القيمة” قد تغيّرت، أو لنقل إنها لم تكن تتجاوز أبدًا الحد الأدنى من “المصلحة الذاتية”. في فترة العمل، كنت الرقم الأهم في معادلة حياتهم؛ كنت الرابط الذي يجمعهم بالعالم الخارجي، الشريك الذي لا يمكن أن يظلوا بدون مساعدته، المهندس الذي يعيد ترتيب الأشياء وفقًا لاحتياجاتهم اليومية. ولكن بعد أن تخرج من المعادلة وتغادر اللعبة، تختفي أنت، ببساطة، كما لو أنك لم تكن موجودًا. لن تجد هاتفًا يرن، ولن تجد رسالة تحية. تصبح وكأنك قطعة أثاث تم إزالتها من الحيز الذي كنت تشغله.
ماذا عن المكالمات من الأصدقاء؟ حسنًا، هي مجرد فكرة ترفيهية. تذكر أن هؤلاء الأصدقاء لم يتعاملوا معك يومًا إلا وفق شروط معينة. عندما كنت “تعمل”، كنت بمثابة العمود الفقري الذي يجسد نجاحاتهم وتطلعاتهم. لكن حينما يحين وقت التقاعد، تصبح كما لو أنك “تميمة حظ” انتهت صلاحيتها. المشكلة ليست فيك، ولكن في الفكرة السائدة التي تقول إن شخصًا ما هو فقط “ذو قيمة” ما دام لديه وظيفة رفيعة ومكانة تجعله مرغوبًا اجتماعيًا. أما في مرحلة التقاعد، حينما تُصبح بلا وظيفة، تتحول القيمة إلى مجرد هيكل فارغ من أي معنى عملي.
وبينما يذهب الأصدقاء المناسباتيون في طريقهم الجديد، ويبتعدون عنك، لا تجد سوى الصمت يملأ الفراغ الذي كان مليئًا بالأصوات والهمسات. الصمت هذا ليس مجرد غياب للكلام، بل هو أيضًا غياب للمعنى. في النهاية، تصبح مجرد شخص موجود في زاوية، لا يحظى بأي اهتمام، سوى تذكير في بعض الأحيان أثناء المناسبات العائلية البعيدة أو تلك اللمحات العابرة في اللقاءات الاجتماعية النادرة. ساعتها، تبدأ في التساؤل هل كانت المكالمات التي تجريها طوال فترة حياتك هي مكالمات حقيقية أم مجرد وسيلة للتسلية؟
من جهة أخرى، نجد أن أولئك الذين “استمتعوا” بمزايا فترة التقاعد، بدأوا في الاستمتاع بالصمت بأبعاده. إذ تصبح الحياة أكثر هدوءًا وأقل ضوضاءً. بدأت النزهات اليومية تملأ وقتهم، وأصبحوا يكتشفون أن الوقت الذي كانوا يعتقدون أنهم سيشعرون فيه بالفراغ المزعج هو في الواقع وقت مليء بالاحتمالات. تتنوع الأنشطة ما بين الهوايات، القراءة، وممارسة الرياضة. وها هم الآن، يتذكرون بحسرة كيف كانوا قد أضاعوا سنوات من عمرهم في خدمة أولئك الذين لم يكونوا يقدرون حتى وجودهم بعد أن تم تقاعدهم.
إذاً، في النهاية، هو أمر غريب ومضحك. فبينما كانت الهواتف تدق ليل نهار، ويزدحم البريد الإلكتروني بالمهمات، يصبح التقاعد هو اللحظة التي يعيد فيها المرء النظر في “القيمة” الحقيقية للصوت الذي كان يرن في الأوقات الماضية. ويدرك ببساطة أن القيمة ليست في المكالمات أو المواعيد أو الاجتماعات، بل في لحظات الصمت التي يجدها فجأة بعد كل هذا الهراء. في النهاية، تبقى حياة محمد حلاب، هذا الرجل الذي اعتُبر من خدام الدولة، مليئة بالمفارقات التي تثير التساؤلات. كان قد تقلد العديد من المناصب الحساسة، وكان آخرها منصب والي “قد الدنيا”، وهو لقب يحمل بين طياته أهمية ورفعة داخل البيروقراطية. ومع ذلك، حين رحل رحمه الله، لم يكن هناك أي حضور يُذكر من أولئك الذين اعتادوا على الإستفادة منه، باستثناء ابنه وقائد الملحقة الإدارية التي تدخل المقبرة في تراب نفوذه. في المراسيم، كما لو أن الحياة قد غادرت معهم، فلم يكن هناك حنين ولا رحمة، فقط الوجوه المعتادة التي تلتقط الأنفاس بسرعة لتعود إلى مجرى الحياة الذي لا يتوقف.
في النهاية، يبدو أن المنصب لا يترك سوى الفراغ في النفوس، والذكريات الخالية من المشاعر الحقيقية. أليس هذا هو واقع من يخدمون في مناصب رفيعة؟ يسعون طوال حياتهم لتحقيق مكانة، لكنهم في لحظة الغياب يُنسون كما لو لم يكونوا يومًا جزءًا من التاريخ. الحياة لا تترقب أحدًا، حتى لو كان والي “قد الدنيا”.