الجماعة تصرف، المواطن يصرخ!

ضربة قلم
في عمق المشهد المحلي، حيث تُوزّع الميزانيات كما تُوزّع التمرات في موسم الانتخابات، تتربص قنابل صامتة لا دخان لها ولا صفارات إنذار، لكنها تُحدث دمارًا يفوق ما تخلّفه الفيضانات ومواسم الجفاف مجتمعة. قنابل على هيئة “صناديق سوداء” لا تُفتح، ولا تُراجع، ولا تُدقق، بل تُغلق بإحكام كما تُغلق الصناديق المليئة بالخطايا.
هذه الصناديق ليست وهمًا، بل واقع مالي مغربي بامتياز، أشبه بعلبة سحرية بين يدي رئيس جماعة، قد لا يُفرّق بين ميزانية التسيير وميزانية التعمير، لكنه يوقع على صفقات بملايين الدراهم، تنتهي غالبًا إلى حفرة عشوائية، أو عمود كهربائي أعوج، أو نافورة بلا ماء في حي لا يعرف غير الانقطاع.
المال العمومي هنا ليس مالًا عموميًا بالمعنى النبيل، بل مادة أولية يعاد تشكيلها حسب الولاءات والانتماءات. تُمنح الصفقات بالتراضي، وتُحرر دفاتر تحمل “شروطًا” لا تُقرأ، وتُفتح العروض وتُغلق كما تُفتح قنينة عصير في اجتماع عبثي. وإن تجرأت وسألت من المستفيد، أو لماذا تتكرر الصفقة نفسها ثلاث مرات في السنة، جاءك الجواب مغلفًا بلغة خشبية: “احترامًا للمساطر”. تلك “المساطر” التي تُستدعى كفزّاعة كلما اقترب أحدهم من الحقيقة.
رؤساء جماعات – بعضهم بالكاد يكتب اسمه – يوقّعون على صفقات بملايير، ونوابهم يصفقون. أما المعارضة – إن وُجدت – فتكتفي بالندوات وتصريحات الصحف. في المقابل، تنطلق شاحنة الإسمنت نحو مشروع “تأهيل الحديقة”، في حي لا تتوفر فيه حتى مراحيض عمومية.
هل نحتاج إلى مرآب جديد للبلدية؟ بالطبع، حتى لو لم توجد طرق صالحة. هل نريد “قوس نصر” وسط قرية تضيء بالشموع؟ سيتحقق الحلم. ففي النهاية، كل درهم يُصرف، يخرج من جيب المواطن البسيط – ذاك الذي ينتظر في طابور المستوصف، أو يُحشر في حافلة بنصف مقعد – ويدخل في جيب آخر، غالبًا لا يعرف عن الجماعة سوى مكاتبها المكيفة، ومصعدها الذي لا يتعطل إلا عندما يزوره الوالي.
تقارير المجلس الأعلى للحسابات، فغالبًا ما تأتي محملة بمصطلحات لطيفة مثل “اختلالات”، و”ضعف الحكامة”، و”غياب التتبع”، وهي تعني باختصار: “المال ضاع، ونحن دوّنا الملاحظة”.
القنابل الصامتة لا تحتاج لانفجار كبير، فهي تنفجر يوميًا: في مدرسة نصف مشيدة، في طريق محفرة كوجه عجوز غاضب، في مركز صحي بلا طبيب، وفي أحياء تعيش على دعم الجمعيات بدل مؤسسات الدولة. وفي المقابل، تكبر الكروش، وتُشيّد الفيلات، وتُشترى سيارات فاخرة لرؤساء مجالس لا يفرّقون بين “الراوتر” و”الماوس”.
الفساد هنا ليس استثناءً… بل هو النظام. ومن شاء محاربته، فليبدأ من “الصناديق السوداء”، تلك التي تحتضن أسرار دولة محلية موازية، تحكمها العلاقات، وتُموّلها الضرائب، ويُحاط الحديث عنها بالصمت، بدافع الحكمة، أو الخوف، أو التواطؤ.
الجماعات المحلية ليست كيانات فاشلة بحد ذاتها، لكنها أبدعت في “تدوير الميزانيات”. وكل صندوق أسود جديد، هو مشروع خراب مؤجل. وهل من قنبلة أخطر من تلك التي تبتسم بصمت… وهي تُحضّر لانفجار قادم؟
وبالطبع، لا تعميم في هذا الحكم، فبين الصناديق المغلقة، توجد صناديق شفافة كالزجاج، يديرها مسؤولون نزهاء، يحسبون الدرهم قبل صرفه، ويدركون أن المال العام ليس إرثًا عائليًا ولا غنيمة انتخابية. لكن هؤلاء يُعاملون ككائنات منقرضة، يُنظر إليهم بريبة، ويُتهمون بأنهم “لا يعرفون كيف يدبرون الأمور”. في بلد تُكافأ فيه الحيلة ويُقصى فيه الضمير، يظل الاستثناء مجرد زينة في نشرات الأخبار.





https://shorturl.fm/YvSxU