الجناح 36: مصنع إنتاج المختلين عقليًا!

ضربة قلم
في المغرب، هناك فئة لا يعترف بها القانون ولا تحميها الدولة ولا يهتم لأمرها المجتمع إلا حينما تتحول إلى خطر داهم: المختلون عقليًا. هؤلاء الذين يعيشون بيننا، لكنهم في واقع الأمر خارج كل الحسابات، يتحولون إلى قنابل موقوتة تنفجر في أي لحظة، ليس لأنهم اختاروا ذلك، ولكن لأن النظام بأكمله قرر أن يتجاهلهم حتى يحدث ما لا تحمد عقباه.
يحكي أحد المتقاعدين من صفوف الأمن الوطني وبحسرة واضحة، عن تلك اللحظات العبثية التي تتكرر يوميًا أمام أعين رجال الأمن والمحاكم والمستشفيات. كيف يأمر وكيل الملك بالدار البيضاء بإحالة المختلين عقليا على مستشفى ابن رشد، حيث الجناح 36 مختصا في الأمراض العقلية والنفسية، فيتنفس الجميع الصعداء ظنًا أن المشكلة حُلّت.
لكن ما إن يصل المحضر ورجال الأمن والمختل عقليًا، حتى توقع إدارة المستشفى على التسليم، ليتم إخلاء سبيله أمام أعين رجال الأمن. أليس هذا سؤالًا يُطرح تحت قبة البرلمان لنسمع الأجوبة العجيبة للوزراء المتعاقبين على وزارة الصحة، وكأننا أمام عرض مستمر لمسرحية هزلية لا تنتهي؟ على الأقل، ينبغي أن يبدأ مسلسل جديد للتعامل مع المختلين الذين يشكلون خطرًا يوميًا على المواطنين في مختلف المدن المغربية.
المواطن العادي، الذي يخرج صباحًا متوجسًا من أن يجد نفسه فجأة في مواجهة مختل عقلي يحمل سكينًا أو عصا أو حتى حجرًا، يتساءل عن مصير هذه الفئة. هل هناك خطة؟ هل هناك مستشفيات حقيقية تستقبلهم؟ أم أن المستشفيات لم تعد سوى مقابر رسمية للأدوية المنتهية الصلاحية وموظفين يطبقون أوامر إدارات لا تكترث بشيء سوى بإغلاق الملفات دون حلول فعلية؟
الحكومة، كعادتها، تجيد فن صناعة الأعذار والتبريرات. إن سُئلت عن الأمر، فستجد وزير الصحة يخرج علينا في البرلمان بخطاب رنان عن نقص الموارد، وارتفاع الضغط على المستشفيات، وضرورة مقاربة حقوقية تحفظ كرامة المختلين عقليًا، وكأن تركهم في الشارع ليهددوا حياة الناس هو قمة هذه الحقوق. أما إذا تعمقت في البحث أكثر، فستكتشف أن مستشفيات الأمراض العقلية لدينا ليست إلا ديكورًا، فعدد الأسرة فيها لا يتناسب مع الأعداد المهولة للمحتاجين للعلاج، والموارد البشرية المتاحة لا تكفي حتى لاستقبال نصف الحالات الموجودة في المدن الكبرى.
ولأننا في المغرب، حيث الحلول غالبًا ما تكون أكثر غرابة من المشاكل نفسها، فإن التعامل مع المختلين عقليًا أصبح شأنًا يرتبط بالمزاج المحلي لكل مدينة. في بعض الأماكن، يتم “تهجيرهم” إلى مناطق نائية، وكأن الحل يكمن في نقل المشكلة من نقطة إلى أخرى. في مناطق أخرى، تجد أن الأمن مجبر على التعامل مع الحالة بمفرده، إما بالاحتجاز المؤقت داخل مخافر الشرطة أو بإعادتهم إلى الشارع مجددًا، حيث يستمر المسلسل العبثي.
لكن المشهد الأكثر إثارة للسخرية هو حينما يتحول المختل عقليًا إلى “حجة قانونية” يتم استغلالها ببراعة. فإذا قام هذا الشخص بالاعتداء على أحد المواطنين، فلا يمكن محاكمته لأنه غير مسؤول عن تصرفاته، وإذا اعتدى عليه أحد المواطنين دفاعًا عن نفسه، فقد يجد نفسه متهمًا بالتعدي على شخص مريض. إنها حالة من الفراغ القانوني والتسيب الإداري تجعل الجميع متورطًا في لعبة بلا قواعد ولا نهاية.
الكل يدرك أن الحلول ممكنة، بل وبسيطة إن وُجدت الإرادة. بناء مستشفيات متخصصة، وضع سياسات واضحة، تخصيص ميزانيات حقيقية بدل نثر الفتات، وإعادة النظر في طريقة تدبير الملف. لكن هذا يتطلب حكومة تفكر في المواطن، أكثر مما تفكر في تلميع صورتها، ومسؤولين يفكرون في المصلحة العامة بدل تدبير مصالحهم الخاصة.
وحتى يحدث ذلك، سيظل المختلون عقليًا جزءًا من المشهد اليومي، وسنواصل مشاهدة المسرحية ذاتها، حيث رجال الأمن يتلقون الأوامر بالإحالة، والمستشفيات تستقبل لتفرج، والمواطن يبقى في حالة تأهب دائم، منتظرًا اليوم الذي يتحول فيه الحي الذي يقطنه إلى مسرح جديد لجريمة ارتكبها شخص لم يختر أن يكون مختلًا، بل اختارت الدولة أن تتركه هكذا، بلا علاج ولا رعاية، ولا حتى إحساس بالمسؤولية.