الجهة الغالبة: رياضة وطنية بامتياز!

ضربة قلم
في المغرب، لا شيء أكثر استقرارًا من “الجهة الغالبة”. هي قاعدة كونية، سارية منذ الأزل، لا تهتز ولو هبت عليها رياح “الإصلاحات الكبرى” أو زلازل “التناوب الديمقراطي”. إنها رياضة وطنية يمارسها محترفون من جميع الفئات، وإن كانت بطولة القرى والبوادي قد سبقت نظيرتها في المدن بسنوات ضوئية، فإن الأخيرة عادت بقوة لتنافس وتتفوق، بفضل انضمام لاعبين مخضرمين من رجال السياسة، ورجال المال، وحتى رجال الفن والرياضة.
عندما يكون الحزب مجرد “كاسكيطة“
زمان، حين كان “المخزن القديم” أكثر بساطة في أدواته، كان يكفي أن يؤسس ناديًا سياسيًا (عفوًا، حزبًا سياسيًا)، ثم يسند مهمة “الاستقطاب” إلى رجال السلطة، الذين يتقنون فن الإقناع أكثر من أي خبير في التنمية البشرية. كان المشهد بسيطًا: القائد يجمع الأعيان، يضع أمامهم الورقة الحزبية الجديدة، ثم ينظر إليهم بعيون تفهمها الحمير قبل البشر، فيبدأ مهرجان التوقيعات. كان بعضهم يوقع وهو يلعن، وبعضهم يوقع وهو يبتسم، ولكن الجميع يوقع! لأنهم يفهمون أن السياسة ليست مواقف، بل مجرد “كاسكيطة” يمكن تغييرها حسب الموسم.
اليوم، لم يعد القائد مضطرًا للتدخل، لأن اللعبة أصبحت تلقائية، واللاعبون محترفون من طراز رفيع. يكفي أن تتابع نتائج الانتخابات أو قوائم الترشيحات لتدرك أن بعض “المناضلين” قد مرّوا على أكثر من خمسة أحزاب في عقد واحد. لقد أصبح لدينا محترفون في القفز السياسي الحر، أشبه ببهلوانات السيرك، ينتقلون برشاقة بين الأحزاب كما ينتقل طفل مشاغب بين ألعاب الملاهي.
الانتماء السياسي بنظام “باكاج شامل“
الانتماء السياسي في المغرب يخضع لنظام “الباكاج الشامل”: العضو ما كيحصلش غير على بطاقة الحزب، لا، ذاك شي ما كافيش. كيحصل على شبكة من الامتيازات اللامحدودة، من تفويضات تسيير المشاريع، حتى المناصب والمناقصات… كأنك في سوق مفتوح، واللي يجي معاه المبدأ ما كيهمش، حتى كيولي مجرد بضاعة قابلة للبيع والشراء، والتبديل حسب الحاجة. هنا كتظهر العبقرية ديال “الجهة الغالبة”، اللي كتفهم السياسة مشي كقناعة، ولكن كصفقة تجارية ناضجة. وكلما احتاجوا لعضو جديد في القائمة، كلما كان المبدأ مجرد فئة إضافية فالباكاج… تقدر تبدلها مع أي حاجة أخرى.
بعض هؤلاء المحترفين يملكون أرشيفًا تاريخيًا مثيرًا: بدأوا استقلاليين، ثم أصبحوا تجمعيين، وبعدها قفزوا إلى الاتحاد الدستوري، حيث العدوى طالت جميع “الصالونات السياسية”، وعندما بدا أن المستقبل أخضر، تحولوا إلى الحركات “الحداثية”، قبل أن يعودوا مرة أخرى إلى “المرجعية البديلة” عند الحاجة. هؤلاء يستحقون موسوعة “غينيس” لأسرع تغيير للجلد السياسي، ولو كانت هناك جائزة “أوسكار” لأفضل ممثل سياسي متلون، لكانت المنافسة شرسة بينهم.
من السياسة إلى الرياضة… مرورا بالنفاق الاجتماعي
الجهة الغالبة لم تعد حكرًا على السياسة فقط، بل غزت كل المجالات، فالرياضة مثلًا أصبحت ساحة أخرى للانتهازية، حيث يتحول بعض المسؤولين من مشجعي فريق إلى رؤساء لنادي خصم بمجرد تلقيهم عرضًا مغريا أفضل. النفاق الاجتماعي أيضًا وجد في “الجهة الغالبة” تربة خصبة، حيث صار الناس يغيرون قناعاتهم حسب الموضة، فمن كان بالأمس يدعو للالتزام، صار اليوم يتصدر حملات “التحرر”، ومن كان يتحدث عن محاربة الفساد، صار من أكبر المدافعين عن “التوافقات السياسية”.
في النهاية، يمكننا القول إن “الجهة الغالبة” ليست مجرد ظاهرة، بل ثقافة راسخة، تجد جذورها في تاريخ طويل من التلون السياسي والاجتماعي، حيث يفهم الجميع أن القاعدة الذهبية ليست الدفاع عن مبدأ، بل الانضمام دائمًا إلى الفريق الفائز، لأن المهم ليس أن تكون على حق، بل أن تكون مع المنتصر!