الحديث بعد الفجر في الأزقة: عندما يُضيّع البعض مقاصد العبادة

ضربة قلم
إن الإسلام، وهو دين الرحمة والسكينة، لم يكن يومًا حجة لمن يسلكون سلوكًا يتنافى مع مبادئه، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بإيذاء الآخرين، حتى وإن كان ذلك دون قصد. فمن غير المفهوم أن ترى بعض المصلين، الذين يفترض أنهم خرجوا من بيت الله بقلوب عامرة بالخشوع والسكينة، ينسون فجأة أن الإيمان ليس مجرد حركات وسكنات، بل هو معاملة وأخلاق، وقبل كل شيء احترام للناس وحقوقهم.
فما الذي يدفع هؤلاء إلى تحويل لحظات الفجر الهادئة إلى حلقات نقاش مفتوحة في أزقة الأحياء العتيقة والشعبية؟ هل هو الجهل؟ هل هي الأنانية؟ أم هو نوع من الاستعراض الاجتماعي الذي يحاول أن يُلبس الفوضى لبوسَ التدين؟
الصلاة ليست بطاقة عبور لتجاهل حقوق الآخرين
الصلاة، كما نعلم جميعًا، ليست مجرد طقس يؤدى ثم يُنسى أثره بمجرد الخروج من المسجد. إنها مدرسة تهذيب للنفس، وتذكير دائم بحقوق الآخرين، ومن أعظم هذه الحقوق: عدم الإضرار بهم، سواء كان ذلك ماديًا أو معنويًا.
والحديث بصوت مرتفع بعد صلاة الفجر في الأزقة الضيقة، حيث يوجد مرضى، كبار سن، وأطفال يحتاجون إلى النوم، هو بلا شك صورة من صور الأذى الذي يتنافى مع تعاليم الإسلام. فقد نهى النبي ﷺ عن إزعاج الآخرين، حتى أثناء الصلاة ذاتها، فقال: “لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن” (حديث صحيح)، فكيف إذا كان الجهر بحديث فارغ لا فائدة منه سوى إثقال كاهل الجيران بحرمانهم من النوم؟
هل أصبح الفجر موعدًا للثرثرة بدل الذكر؟
عجيب كيف يتحول وقت الفجر، الذي وصفه الله تعالى بأنه “قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا” (الإسراء: 78)، إلى وقت للثرثرة في أمور قد لا تمت للدين بصلة!
أليس من الأجدر بهؤلاء أن يستغلوا لحظات الفجر في ذكر الله، والاستغفار، والدعاء بدلًا من الانغماس في نقاشات قد تكون عن الدنيا وزخرفها؟ وإذا كان لا بد لهم من الحديث، فلماذا لا يفعلونه بصوت خافت، أو في مكان مغلق بعيدًا عن مضايقة الآخرين؟
من يوقظ الناس عنوة.. هل يحب أن يُوقظ عنوة؟
القاعدة الذهبية التي علّمنا إياها النبي ﷺ هي: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (حديث صحيح). فهل يحب هؤلاء أن يُوقظهم شخص آخر بصخب حديثه بعد أن خلدوا إلى النوم؟ هل يقبل أحدهم أن يُمنع طفله من النوم بسبب ثرثرة البعض في الشارع؟ إذا كان الجواب لا، فلماذا يمارسون على الآخرين ما يكرهون أن يُمارس عليهم؟
الاحترام قيمة إسلامية أصيلة
من المؤسف أن البعض يظن أن التدين يقتصر على الصلاة والصيام، بينما يغفل عن حقيقة أن الإسلام دين يقوم على المعاملة قبل العبادة. فقد كان النبي ﷺ مثالًا في اللطف واحترام الآخرين، ولم يكن يومًا مصدر إزعاج لجيرانه، بل أمر بإكرام الجار وحسن معاملته، حتى قال ﷺ: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره” (متفق عليه).
وأي تكريم للجار في إزعاجه وحرمانه من راحته؟
رسالة أخيرة.. الإسلام ليس براءة اختراع لفوضى السلوك
إن الإسلام لم يكن يومًا غطاءً لتبرير العادات الخاطئة، ولا يمكن أن يكون وسيلة لنشر الفوضى تحت مسمى التدين. فمن كان يريد الخير لنفسه وللناس، فليحترم أوقات الراحة، وليتعلم أن التدين الحقيقي ليس بالصوت العالي، بل بالأخلاق العالية.
لذا، لمن يصر على تحويل الأزقة إلى “صالونات نقاشية” بعد الفجر، تذكروا أن هناك أرواحًا تبحث عن السكينة، ومرضى ينتظرون لحظات راحة، وأطفالًا يحتاجون إلى النوم العميق لينشؤوا بصحة جيدة.
فهلّا جعلنا صلاة الفجر بداية لنقاء القلب، وليس سببًا في ضيق الآخرين؟
الدرس المختصر انتهى، ونتمنى صادقين أن ينتهي هذا العبث كما تنتهي هذه السطور. فالتدين الحقيقي ليس في الضجيج، بل في السكينة واحترام الآخرين.