مجتمع

الحد الأدنى من الدقة… يا سي بايتاس!

ضربة قلم

في كل مرة نكاد نصدق أن الحكومة بدأت تتقن لغة الأرقام، يخرج علينا مسؤول ليعيدنا إلى مرحلة “التحليل بالتخمين”. هذه المرة جاء الدور على مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، الذي قرّر أن يوزّع علينا جرعة جديدة من “التفاؤل المفرط”، معلناً على قناة “العربية” أن الحد الأدنى للأجور في القطاع العام هو 4500 درهم، وفي القطاع الخاص… عشرة آلاف درهم!
نعم، عشرة آلاف، لا خطأ في السمع ولا في البصر.

ولأنّ المغاربة لا يحبّون أن يُتّهموا بسوء الفهم، عاد الرجل بعد أن اشتعلت المنصّات ليقول إنّ الأمر مجرّد زلة لسان أو سهو لغوي. وكأنّ الألسن في المناصب العليا يُسمح لها أن “تزِلّ” أمام ملايين الناس ثم تطلب الصفح بابتسامةٍ بيروقراطية.

يا سي بيتاس، إذا كان تصريحك زلّة، فبكم تُقدّر الزلاّت في ميزانية التواصل الحكومي؟ وإذا كان لسانك قد خانك، فماذا عن الذين خانتهم الأجور نفسها؟
أيُّ سهوٍ هذا الذي يجعل الحد الأدنى في القطاع الخاص يكاد يصبح أوروبياً في غفلةٍ منا؟
كأنّنا استيقظنا فجأة في دولةٍ أخرى لا تعرف شكايات العمال، ولا تأخير الأجور، ولا أجورًا بالكاد تكفي ثمن الكراء!
سهوٌ كهذا لا يصدر عن لسان، بل عن واقعٍ يُراد تلميعه بالكلمات، بينما الحقيقة تُعاني في الجيوب والقلوب معًا.
بل أيُّ منطقٍ إداري يجعل المتحدث الرسمي باسم الحكومة يخطئ في اللغة الرقمية، بينما البلد يعيش على وقع كل درهمٍ يُخصم من جيب المواطن؟

الناس يا سي بيتاس لا تحتاج إلى سهوٍ في الأرقام، بل إلى صحوةٍ في الضمائر.
المغاربة لم يعودوا يندهشون من الغلاء، ولا من الفقر، ولا من الوعود المكررة… بل يندهشون من تلك الثقة التي يتكلم بها بعض المسؤولين وكأنهم يعيشون في مملكة موازية لا يعرفها إلا من قبض راتبه من كوكب المريخ.

هل تدري كم هو الحد الأدنى الحقيقي للأجور في القطاع الخاص؟
إنه لا يُقاس بالدرهم، بل بكثرة الصبر، وبطول الانتظار أمام الكراء، وبكلفة الكهرباء والماء والخبز والحليب.
الحد الأدنى للأجور في المغرب هو أن تنجو من الشهر دون أن تستدين.

ثم يأتي بعد ذلك من يُلقي بالأرقام كمن يرمي العظام في حفلة أسود، ويطلب منا أن نفهم أنه “أخطأ في التعبير”!
ولأنك رجل تعليم سابق، فإنك تعرف في زمنٍ يُعاقَب فيه التلميذ على خطأ نحوي في ورقة الامتحان، كيف نقبل من ناطقٍ رسمي أن يُخطئ في لغة الدخل والمعيشة؟

يا سي بيتاس، إنّ الزلة لا تُغتفر حين تأتي من لسانٍ حكوميٍّ يتحدث باسم الملايين.
والعذر، في مثل هذا المقام، أكبر من الزلة نفسها.
فحين يتعلق الأمر بالخبز والكرامة، لا مكان للخطأ اللغوي… ولا للمبالغة التلفزيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.