مجتمع

الحسد بين الزملاء: عندما يتحول العمل إلى حلبة صراع غير معلن

ضربة أقلام

لا شيء يفسد بيئة العمل، أو أي وسط احترافي، أكثر من الحسد. قد نكون تطرقنا لهذا الموضوع بشكل عام في السابق، لكن عندما تواجه أحد هؤلاء الحساد وجهاً لوجه، وهو يدافع عن “عشيرته” بكل وقاحة، تجد نفسك مدفوعًا للغوص أعمق في هذه الظاهرة، كأنك تدخل دهاليز عقلية لا تفهم سوى لغة “لماذا هو وليس أنا؟”.

الحسد في المكاتب: تاريخ طويل من الخناجر في الظهر

منذ أن وُجدت بيئة العمل، وُجد الحسد. قد يكون الشخص المجتهد والموهوب مشغولًا بتحقيق أهدافه، لكنه لا يعلم أن هناك من يراقبه من بعيد، ليس إعجابًا، ولكن بحثًا عن نقطة ضعف يمكن استغلالها. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل تضرب بجذورها في التاريخ، حيث يروي المؤرخون أن حتى ممالك وقصور السلاطين لم تكن محصنة ضدها.

ففي بلاط السلطان سليمان القانوني مثلًا، لم يكن القتال فقط بين الجيوش، بل بين الوزراء والقادة العسكريين، حيث تفننوا في دسّ المكائد والتلاعب بالمعلومات من أجل تحطيم منافسيهم. وكما في البلاط، كذلك في المكتب، حيث يتحول الحسد إلى “مهنة” يومية لبعض الزملاء الذين يعيشون على أعصاب الآخرين.

هوليوود تحكي القصة نفسها

بعد بحثنا في العناوين السينمائية التي تناولت هذا الشعور الخبيث، وجدنا أن السينما الأمريكية قدمت مرارًا نماذج حية تجسد كيف يمكن للحسد بين الزملاء أن يتحول إلى صراع خفي، لكنه لا يقل ضراوة عن المعارك العلنية. ومن بين أبرز هذه الأعمال، نجد أفلامًا مثل The Devil Wears Prada وWall Street وThe Social Network، التي تصور كيف يتآمر الأشخاص ضد بعضهم البعض، ليس فقط لإقصاء منافسيهم، بل أيضًا للسطوع منفردين في المشهد.

خذ على سبيل المثال The Social Network، حيث تحول مارك زوكربيرغ من مجرد طالب في هارفارد إلى ملياردير عبر مشروعه “فيسبوك”، لكنه لم يكن وحيدًا في الرحلة. بين الادعاءات والخيانة القانونية والمقالب المدبرة، رأينا كيف أن حسد الزملاء قاد إلى معارك قانونية شرسة.

أما في Wall Street، فالقصة تذهب إلى بعد آخر، حيث يصبح المال والجشع هما المحفزان الأساسيان للحسد، لدرجة أن أحدهم قد يدمر الآخر فقط ليحصل على صفقة أفضل. وفي الواقع، لم يكن هذا مجرد خيال سينمائي، بل انعكاسًا لما يحدث في الأسواق المالية الحقيقية، حيث لا يكتفي المنافسون بمراقبة بعضهم، بل يتمنون سقوطهم ويفعلون المستحيل لتحقيق ذلك.

“لماذا هو وليس أنا؟” – الجملة التي تشعل النيران

الحاسد لا يستطيع أن يرى نجاح الآخرين دون أن يشعر بوخز في كبده. إنه لا يسأل كيف حقق الشخص الآخر النجاح، بل يتساءل: “لماذا هو وليس أنا؟” وهنا تبدأ مرحلة المؤامرات الصغيرة.

  • قد يكون الزميل الحاسد هو ذاك الذي “ينقل الكلام” إلى المدير ليظهر الآخر في صورة سيئة.
  • أو ذاك الذي يتجاهل إنجازات زميله عمدًا حتى لا يمنحه أي اعتراف.
  • وربما هو الشخص الذي يسارع إلى تبني أفكار غيره ونسبها لنفسه.

في بعض الأحيان، لا يحتاج الحاسد إلى فعل شيء مباشر، بل يكفي أن يبث الشائعات أو ينشر طاقة سلبية تكفي لإضعاف روح الفريق.

عندما يحسد الكبار الكبار

يظن البعض أن الحسد مقتصر على صغار الموظفين أو الأشخاص العاديين، لكن الواقع يكشف أن الحسد بين الكبار أشد فتكًا. في السياسة، رأينا كيف أن زعماء دول كانوا يحسدون بعضهم البعض، ليس فقط على السلطة، بل حتى على مدى التأثير الإعلامي والشعبية. حتى بين الملوك والرؤساء، كانت هناك غيرة قاتلة، بل في بعض الأحيان انقلابات دموية بسبب الحسد البحت.

أما في الشركات الكبرى، فنجد صراعات على المناصب بين مدراء تنفيذيين، حيث لا يقتصر الأمر على المنافسة المهنية، بل يمتد إلى التآمر وإقصاء بعضهم البعض بطرق قانونية وغير قانونية. كم من مدير طُرد من منصبه لمجرد أن نائبه رأى فيه تهديدًا لمستقبله؟ وكم من مسؤول تعرض لحملة تشويه منظمة فقط لأنه كان أكثر كفاءة ممن هم فوقه؟

حين يصبح التفوق لعنة: الحسد بين المدير ومرؤوسيه

في كثير من الأحيان، لا يقتصر الحسد في بيئة العمل على الزملاء فحسب، بل يمتد ليشمل العلاقة بين المدير ومرؤوسيه. فقد تجد مديرًا يضمر الغيرة تجاه بعض موظفيه، ليس لأنهم يشكلون تهديدًا مباشرًا لمنصبه، ولكن ببساطة لأنهم أكثر كفاءة منه، أو لأنه، كما يقال في الدارجة المغربية، “أزرق”، أي يفتقر إلى المهارات الحقيقية التي تؤهله لقيادة فريقه بجدارة. وفي المقابل، قد يكون الحسد متبادلاً، حيث يشعر بعض الموظفين بالغيرة من مديرهم، ليس لمجرد أنه في منصب أعلى، ولكن لأنه من نفس الفوج أو الخلفية المهنية، ومع ذلك تفوق عليهم، مما يجعل نجاحه يذكرهم بتقاعسهم أو بإخفاقاتهم الشخصية. والمفارقة هنا أن هذا الحسد غالبًا ما يظهر عندما يتعلق الأمر بالكفاءة الحقيقية، وليس بمن تسلقوا السلم الوظيفي بطرق ملتوية، إذ أن هؤلاء لا يثيرون غيرة أحد، بل مجرد استهجان وسخرية.

الحسد الحديث: من المكاتب إلى وسائل التواصل الاجتماعي

في العصر الرقمي، لم يعد الحسد محصورًا في المكاتب، بل انتقل إلى فضاءات أوسع. مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت حلبة جديدة لصراع الأنا، حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين، وعدد الإعجابات، ومدى تأثير الشخص في مجاله.

  • تجد شخصًا يتابع منشوراتك فقط ليقارنها بما لديه، وإذا رأى نجاحك، سيبدأ بالتقليل منه بأسلوب مستتر.
  • تجد آخر يقتبس أفكارك دون الإشارة إليك، فقط ليحصد التقدير الذي كنت تستحقه.
  • هناك من يُسارع لنشر أخبار سيئة عنك لمجرد أنه لا يستطيع تحمل فكرة أنك في القمة.

كيف تتعامل مع الحاسدين؟

الحسد ظاهرة لا يمكن القضاء عليها، لكنها قابلة للترويض. إليك بعض الأساليب:

  1. لا تمنحهم القوة: تجاهل التعليقات السلبية، ولا تمنحهم مساحة في ذهنك.
  2. اجعل نجاحك أكثر صمتًا: لا تكشف كل خططك وإنجازاتك أمام الجميع، فالعيون المترقبة أكثر مما تتصور.
  3. واجههم إذا لزم الأمر: في بعض الحالات، قد يكون من الضروري مواجهة الشخص الحاسد مباشرة، لإيقافه عند حده.
  4. احط نفسك بالمؤيدين: وجود زملاء داعمين يمنع الطاقة السلبية من الانتشار في بيئة العمل.
  5. لا تتحول إلى واحد منهم: عندما ترى شخصًا ناجحًا، تعلم أن تبارك له بدلاً من أن تتمنى سقوطه.

ختامًا: الحسد لن ينتهي، لكنه لن يهزمك

الحاسدون سيبقون دائمًا، في كل زمان ومكان، لكنهم لا يستطيعون إيقاف الناجحين إلا إذا سمحوا لهم بذلك. لا تجعل نجاحك مرهونًا بآرائهم، بل اجعلهم يشتعلون حسدًا دون أن تبذل جهدًا. فالرد الحقيقي على الحسد ليس بالصراخ أو الدفاع، بل بالاستمرار في النجاح حتى يصبح أعداؤك شهودًا على تفوقك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.