الحسد منهاج حياة: إذلال العقل وتجميل الرذيلة في مجتمع ينهش نجاحك!

ضربة قلم
في تلك المجتمعات التي يعمّها النقص في القيم وتشيع فيها ثقافة الحقد أكثر من ثقافة الاحترام، نشأت بيئة لا يزدهر فيها إلا من يتحلّى بقدرة عجيبة على التنكّر للروح الإنسانية والتنكّر للآخرين. يجد المرء نفسه أمام واقع يسوده النفاق، حيث يختبئ الحسد خلف الابتسامات المجاملة وكلمات الثناء، ويظهر علانية التحقير والسخط لما يحققه الآخرون من إنجازات ولو كانت في أبسط الأمور اليومية، كنجاح في مشروع صغير، أو تميّزٍ في عملٍ روتيني. فهنا ينظر الناس إلى نجاحك بعين الريبة والريبة تنمّ عن جرحٍ قديم في نفوسهم، جرح يزداد ألماً كلما شاهدوا بعدك عنهم، كلما رأوا فيك صورةً لما كان يمكن أن يكونوا، لو أن الظروف أو الإرادة احترمتهما يوماً.
أما أشباه المثقفين، فيعانون هم أيضاً من تضخّم في الأنانية وضعف في رباطة الجأش، إذ لا يجدون بجانبهم من يبادلهم النقاش الهادئ أو الحوار البناء، لأن احترام الرأي الآخر يظل ترفاً في هذه البقاع. هنا يصبح النقد بنّاءً فقط إذا كان موجهاً إلى الآخرين، أما لو انعكس النقد على الذات فقد يسقط صاحبه تحت أقدام سهام الاستهجان والازدراء. يتراءى للجاهل أن التفوّق العلمي أو التطوّر الفكري يُعَدّ إثارةً للتفاخر الذي لا يرضى به إلا من عاشت في عصور الإنكار، فبدل أن تُحتفى بالمعرفة، يُحتفى بالجهل ونقيضه، الحسد.
يبدو أن هؤلاء الأعداء الصامتين -أولئك الذين يعادون النجاح في صمتٍ- لا يحتملون رؤية شعاعٍ من الأمل يتسلّل من حياة الآخرين إلى حياتهم، كيف لهم أن يواجهوا فرحة ابن جيرانهم بحصوله على وظيفة أو نجاحه في امتحان عندما يجدون أنفسهم عاجزون عن المضي قُدُماً؟ إنهم يرون في نجاح الغير تذكيراً مريراً بما فاتهم من فرص وما ضاع من أحلامٍ كانت بين أيديهم يوماً، فرغم أن الحياة لا تقف عند باب أحد ولا تنتظر أحداً، إلا أنهم يصرّون على جعل هذه الحقيقة جرحاً غائراً يفتّك بسلامهم الداخلي.
في قلب هذه الدوامة الإنسانية تتوزّع الأدوار بين شامتٍ يأكل الأخضر واليابس فرحاً بسقوطك، وحاسدٍ يتلوّن بالمديح ليُسقطك عبر بوابة الغيرة الخفية. وإذا نظرت حولك فلا تجد من يلجأ إليه الفرد ليشكو همومه أو يشاركه أحلامه، لأن مسامع الناس جفت من كلمات التعاطف، وقلوبهم توقفت عن الإحساس بالفرح للغير. يصبح الإنسان في هذا الجو الموبوء مجرد رقمٍ لا قيمة له، إلا إذا كان قادراً على افتعال جدلٍ أو إثارة ضوضاءٍ حول إنجازاته؛ حينها فقط يكتسب اهتماماً، وإن كان شكلياً زائفاً.
والأدهى من ذلك أن هذا المناخ النفسي السلبي يخلق نوعاً من العزلة الذاتية، فالمرء الذي يحاول أن يكون صادقاً مع نفسه ويعمل بتفانٍ يُقابل دائماً بسيلٍ من الشكوك والتهم الظالمة. إنهم لا يعترفون بالإخلاص ولا بالتفاني، فحين يركز شخصٌ مشروعاً خيرياً أو يسعى لتحسين ظروف جيرانه، يُظنّ أنّ وراء ذلك أهدافاً خفية ومصالح شخصية، ولا يُقدّرون بساطة النوايا السامية، لأن ثقافة العداء للنجاح تسلّلت إلى وجدانهم من أعماق فُجواتٍ لم تلتئم بعد.
وعندما تصبح الجسدانية مقياساً للأولوية، يختفي الصوت الذي يحمل الأفكار والقيم والمبادئ، فلا يُسمع إلا صراخ الجسد ومظاهر الظهور الخارجي. يتفنّن البعض في تقمص دور المثقف، لكنهم في جوهرهم لا يؤمنون بما يمثّله المثقف من قضية إنسانية، فهم يستخدمون المنابر للادعاء والتسوّق الاجتماعي، ويتصرفون بعكس ما ينادون به. يعلو صوت البهرجة على صوت العقل، وتنحسر مساحة النقاش العميق ليحلّ محلها الجدال العقيم.
إن هذه المجتمعات التي تعاني من انحطاط القيم والتخلف الأخلاقي بحاجة إلى صحوةٍ جماعية، صحوة تعيد الثقة بالآخرين وتعيد الاعتبار للنجاح كحق مشترك لا ميزة شخصية. لكن حتى تأتي هذه الصحوة، سيظل الأفراد حبيسي نيران الحسد والازدراء، عاجزين عن مدّ يد الأخوة، وحلفاء للفرقة والاختلاف. وستبقى صورة الوطن ضبابية في أذهانهم، لأنها تستند إلى أساسٍ هشّ تنهشه أشكال الفساد الأخلاقي المتعددة، من تغليب المظاهر الجسدية على منطق الحكمة إلى المحسوبية التي تهدم جسور النزاهة وتقضي على رُقي الوطن بأسره.
Very good https://rb.gy/4gq2o4
Awesome https://rb.gy/4gq2o4
Good https://rb.gy/4gq2o4