
ضربة قلم
يقال إن السياسة فنّ الممكن، لكن في المحمدية تحوّلت إلى فنّ الغياب المتقن، وفنّ التلعثم الرسمي، وفنّ الجلوس الصامت على مقاعد البرلمان مع مهارة نادرة في التصفيق عند اللزوم. نحن هنا لا نتحدث عن حكومة بأكملها، بل عن “الحكومة المصغّرة” التي تمثّل المدينة في البرلمان، ثلاثي المرح السياسي: الاستقلالي، التجمعي، والبامي. أحزاب ثلاثة، تُشكّل الحكومة في الرباط، وتُشكّل الغياب في المحمدية.
الثلاثي المقدّس: حكومة مصغّرة بحجم فنجان قهوة
ثلاثة نواب عن المحمدية، ثلاثة أحزاب من الأغلبية، وثلاث نتائج: صفر مشاريع، صفر مبادرات، وصفر مواقف واضحة من ملف مصفاة سامير التي كانت يوماً شريان الاقتصاد الوطني. لكن لا بأس، فالصمت أحياناً عبادة… إلا حين يكون على حساب آلاف العمال وعائلاتهم، وعلى حساب اقتصاد مدينة كانت تُلقب بـ”مدينة الذهب الأسود”، قبل أن تتحول إلى مدينة “الرماد الرمادي”.
سامير… الشبح الذي يخيف ممثلي الشعب
ملف سامير هو ذاك الفيل الضخم في الغرفة الذي يتظاهر الجميع بعدم رؤيته. لا أحد من النواب الثلاثة تجرأ أن يفتح فمه بكلمة حول المصفاة. ربما لأن “الريح جاية من الفوق”، وربما لأنهم لم يتفقوا بعد على طريقة نطق كلمة “التكرير” دون أن يتلعثم أحدهم. النتيجة؟ سامير مغلقة، المحمدية مختنقة، والمواطنون ينتظرون “معجزة برلمانية” قد تأتي يومًا ما من السماء، بما أن الأرض لم تعد تلد سوى شعارات.
النائب الاستقلالي… الرجل ذو الألف بطاقة حزبية
أما الاستقلالي، فهو رجل خبر الترحال السياسي كما يعرف أحدهم دروب المدينة القديمة. بدأ مسيرته في حزب الشورى والاستقلال، ثم انتقل إلى الحزب الوطني الديمقراطي، ومنها إلى الحركة الشعبية -وعذرًا إن نسينا محطة أخرى في هذا المسار الحافل- قبل أن يستقر أخيرًا في حزب الاستقلال، كمن وجد أخيرًا شاطئًا يريح فيه قدميه بعد رحلة طويلة من الأمواج الحزبية المتقلبة.
لا يظهر إلا في المناسبات الكبرى: الانتخابات، الأعراس السياسية، أو صور الجمعيات التي تُوزّع “قِفف رمضان”.
وإذا تحدث، فحديثه يُشبه رسائل التهنئة: جميل الشكل، فارغ المحتوى.
النائب التجمعي… صاحب الخطاب التاريخي
ومن ينسى النائب التجمعي، صاحب “الخطاب الأسطوري” الذي دخل التاريخ من أوسع أبواب التلعثم. الرجل صعد إلى المنبر في لحظة نادرة من لحظات الإلهام، وأخرج ورقة مكتوبة بعناية، ليبدأ في قراءة نصٍّ بدا وكأنه “إنشاء مدرسي” ضلّ طريقه إلى البرلمان. ارتبك الرجل، تعثّر في الكلمات، وانتهى به الأمر مادة دسمة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. لا أحد تذكّر مضمون خطابه، لكن الجميع تذكّر كيف نطق كلمة “الاستثمار” كأنها “استغفار”.
النائب الطاهر… الصمت عنوان الكفاءة
ثم يأتي “الطاهر” الذي عاش ولايتين كاملتين في صمت نبيل، وكأنه يتبع مبدأ الزهد السياسي. لم يتقدم بسؤال واحد، لم يشارك في أي نقاش، لم يُصدر حتى بيانًا تافهًا. رجل يقدّس الهدوء لدرجة أن البرلمان لم يسمع صوته منذ انتخابه، ربما لأنه يخاف أن ينزلق لسانه كما حدث لزميله التجمعي. هو نموذج “النائب الصامت”، الذي يشارك في السياسة بنية حسنة: “من لم يقل خيرًا، فليصمت”، وقد صمت… وصمت طويلًا!
ثلاثتهم في البرلمان، والمدينة في الإنعاش
هكذا إذًا، يجتمع في المحمدية ثلاثة نواب، من ثلاثة أحزاب تشكّل الحكومة، لكن لا أحد منهم استطاع تشكيل جملة مفيدة تخدم المدينة. البرلمان بالنسبة لهم مجرد مقهى سياسي كبير: يجلسون، يتبادلون الابتسامات، يصفقون عند تمرير القوانين، ثم يعودون إلى ديارهم ليحتفلوا بإنجاز “يوم بلا زلّة لسان”.
أما المدينة، فترزح تحت مشاكلها المعتادة: طرق محفّرة، نفايات تتكاثر بسرعة الضوء، مشاريع متعثرة، وشباب يحلم فقط بفرصة نجاة من البطالة.
المواطن المحمدي… بين التهكم واليأس
المواطن هنا أصبح يحفظ أسماء نوابه لا لشيء، بل لأنه يراهم في صور حملات انتخابية تتكرر كفصول مسلسل مملّ. في المرة القادمة، قد يضعون صورهم في إعلان عن مهرجان الضحك، لأن مساهمتهم الحقيقية لم تتجاوز حدود الفكاهة السياسية.
المحمدية مدينة بلا “نَفَس سياسي”
مدينة المصفاة أُغلقت مصفاتها، ومدينة الصناعة انطفأ بريقها. لم يبق سوى الأوساخ والروائح المنبعثة من المحطة الحرارية والوعود القديمة التي يتقنها كل مرشح. والمفارقة أن المحمدية، رغم قربها من العاصمة الاقتصادية، صارت نموذجًا مصغرًا للتناقض الوطني: الثروة تمر من جوارها، لكن لا نصيب لها منها.
خاتمة: حين تتحول السياسة إلى صمتٍ مُدوٍّ
في المحمدية، لا نحتاج إلى حكومة محلية ولا حتى معارضة، فكل شيء يسير بنظام “التيك أواي السياسي”: ثلاث أحزاب في جيب واحد، وثلاثة نواب لا يختلفون إلا في ألوان “الكوستيمات”. المدينة تنزف، والمصفاة تصدأ، والناس يتفرجون على مشهد الصمت الطويل الذي صار أطول من الولاية نفسها.
إنها حكومة مصغّرة، بنتائج مصغّرة، وهمّة مصغّرة، ومشاريع لا تُرى إلا بالميكروسكوب. ما بين نائبٍ يتلعثم، وآخر يختفي، وثالث يصمت بخشوع، تبقى المحمدية في انتظار نائبٍ واحد على الأقل… يتكلم بصدق، ولو لمرة واحدة، قبل أن تُطفأ الأنوار ويبدأ التصفيق الختامي.
ففي النهاية، يبدو أن ممثلي المدينة قد أتقنوا الدور إلى حد الكمال: لا صوت يعلو فوق صوت الصمت، ولا شعار أبلغ من “نحن هنا… كي لا نفعل شيئًا!”.




