الحياة بين زجاجتين: دعوة إلى التربية على التفاؤل

ضربة قلم
في عالم يمضي بسرعة هائلة، وتتصادم فيه الرغبات بالقيود، والتحديات بالأحلام، يمكن تشبيه حياة الفرد وهو يعيش ضمن المجتمع بقيادة سيارة في طريق طويل. فكما أن السائق يحتاج إلى زجاج أمامي واسع يرى من خلاله الطريق إلى الأمام، كذلك الإنسان بحاجة إلى رؤية واضحة وممتدة نحو المستقبل، مليئة بالتوقعات والطموحات والخيارات الممكنة. هذه الزجاجة الأمامية ليست مجرد أداة للرؤية، بل هي صورة رمزية للآمال، للخطط، للمواقف التي ينبغي أن تُبنى على التقدم لا التراجع، وعلى النظر إلى الأمام لا الاستغراق في ما كان. وفي المقابل، توجد الزجاجة الصغيرة التي نطل منها على الخلف، على الماضي، وهي أضيق بكثير، لأن الغرض منها ليس أن نُدير حياتنا ونحن مشدودون إلى الوراء، بل أن نأخذ لمحات سريعة، أن نتعلم من الدروس، أن نستوعب ما مرّ، ثم نواصل السير بثبات. فالقيادة الواعية لا تكون إلا بتركيز العين على الطريق أمامنا، مع حذر بسيط من الخلف، لا أكثر. كذلك ينبغي أن تُبنى الحياة: نظرٌ متزن نحو المستقبل، دون غفلة عن الماضي، ولكن دون استسلام لثقله.
وإذا كنا نتحدث عن تربية الفرد في المجتمع، فإن هذا التشبيه لا يُستخدم فقط لتوضيح مسألة رؤية، بل يعكس فلسفة كاملة في كيف نُهيّئ الإنسان للعيش بتوازن بين ما مضى وما هو آتٍ، كيف نربّيه على أن لا يظل أسيرًا لخيباته أو ماضيه، ولا مشلولًا أمام خوفه من المستقبل. إننا نعيش اليوم في مجتمعات تعاني من حالة من التوتر النفسي الجماعي، حيث تُربّى الأجيال على الحذر المفرط، على الترقب المقلق، على الانشغال بما يمكن أن يسوء، بدلًا من غرس الإيمان بما يمكن أن ينجح. وهنا تأتي أهمية التربية على التفاؤل، لا كمجرد رفاهية نفسية أو شعور لطيف، بل كضرورة اجتماعية وثقافية. فالفرد المتفائل لا يكتفي بالأمل، بل يتحرك من خلاله. يتحول تفاؤله إلى قوة دافعة للعمل، إلى قدرة على التجاوز، إلى إصرار على البناء.
التفاؤل لا يُلقَّن كنصيحة عابرة، ولا يُغرس في لحظة وعظية، بل يُبنى عبر التجربة والتوجيه المستمر. نحتاج إلى تربية تُعلِّم الطفل كيف يرى فشله تجربة لا وصمة، كيف يُدرِك أن العثرات جزء من الطريق لا نهايته. التربية على التفاؤل تعني بناء عقلية قادرة على استيعاب أن الحياة لا تسير دائمًا وفق المخطط، لكنها مع ذلك تستحق أن تُعاش بمحاولة، بإصرار، برغبة في التحسن. لا يمكن أن نحفّز فردًا على الإبداع أو الإقدام إن كان يعيش بعقلية الخوف أو ينتظر دومًا الأسوأ. التفاؤل ليس تغاضيًا عن الواقع، بل تعاملًا إيجابيًا معه. ليس خيالًا، بل موقفًا من الواقع، يرى أن كل واقع -مهما كان قاسيًا- يحتوي بداخله على إمكانية ما، إذا التُقطت بعين بصيرة، صارت مفتاحًا نحو التغيير.
ومن هنا، فإن الزجاجة الخلفية الصغيرة لا تمثل فقط الماضي، بل تمثل أيضًا حجم التركيز الذي يجب أن يُعطى له. نتعلم منه، نعم، نحترمه بما يحمل من دروس، نعم، لكن لا نسمح له أن يصبح حاضرنا الدائم أو أن يعيد تشكيل رؤيتنا للمستقبل بشكل مشوّه. أما الزجاجة الأمامية، فهي دعوة دائمة لننظر إلى الأفق، إلى ما يمكن أن يتحقق، إلى ما لم يحدث بعد. إنها مساحة الحلم، مكان الخطط، ميدان المغامرة. الفرد الذي لا يُربّى على النظر من خلالها يصبح سجينًا لعالم مغلق، ويفقد بالتدريج ثقته بقدرته على التغيير أو حتى على المحاولة. وهنا يكمن الدور الحقيقي للتربية على التفاؤل: أن تجعل من الإنسان قادرًا على أن يتخيل نفسه في مكان أفضل، ثم تؤهله نفسيًا وسلوكيًا ليبدأ المسير نحوه.
ولعلّ أجمل ما في التفاؤل أنه ليس حكرًا على فئة دون أخرى، ولا يحتاج إلى ظروف مثالية لينشأ. بل إن كثيرًا من أعظم مظاهره وُلدت في بيئات قاسية، تحدّت الإنسان وجعلته يعيد تشكيل رؤيته لذاته وللعالم من حوله. في أوقات الأزمات، يكون التفاؤل أحيانًا بمثابة مقاومة، وقوة ناعمة تحفظ للإنسان كرامته وعقله. وتبدأ هذه القوة من لحظة تعليم الطفل أن المستقبل ليس مجهولًا مخيفًا، بل هو مجهولٌ مليء بالاحتمالات. وأن النجاح لا يُقاس بسرعة الوصول، بل بصدق السعي. وأن كل زجاج أمامي -مهما بدا مُلبدًا- يمكن أن يُمسح ليُرى من خلاله النور، إذا ما امتلكنا أدوات الرؤية الصحيحة.