مجتمع

الدعاة العرب في أوروبا: بين دور التوجيه والانحراف عن المسار

لندن: عبد الرحيم اليونسي
ضربة قلم

في أوروبا، حيث الجاليات المسلمة تعيش ضمن بيئات متعددة الثقافات، يلعب الدعاة المسلمون دورًا مهمًا في تقديم الدين الإسلامي بصيغته المتوافقة مع متطلبات العصر والواقع الجديد. لكن، وكما هو الحال في أي ميدان، لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة. فبينما نجد دعاة يبذلون جهودًا جبارة في نشر قيم التسامح والاعتدال، نجد آخرين يمارسون أفعالًا تثير القلق وتؤثر سلبًا على صورة الإسلام والمسلمين، خصوصًا في بلد مثل بريطانيا، حيث تتخذ قضايا الاندماج والهوية طابعًا حساسًا.

الدعاة العرب بين التوعية والتطرف الناعم

الحديث عن الدعاة العرب في أوروبا يحتاج إلى تفكيك الصورة النمطية التي تحيط بهم. فمن جهة، هناك من يسعون فعلاً إلى نشر الإسلام الوسطي، متحدثين بلغة العصر، ومؤكدين على ضرورة العيش المشترك والتفاهم بين الثقافات. لكن من جهة أخرى، هناك شريحة من الدعاة الذين يعمدون إلى خطاب مزدوج؛ حيث يظهرون الاعتدال في العلن، بينما يرسّخون في الخفاء أفكارًا لا تتناسب مع قيم المجتمعات الأوروبية الحديثة.

في بريطانيا تحديدًا، حيث يوجد واحد من أكبر التجمعات الإسلامية في أوروبا، برزت شخصيات دعوية عربية كانت لها أنشطة ملتبسة، تراوحت بين التحريض الناعم، وإثارة الشكوك تجاه المؤسسات البريطانية، ووضع الجالية المسلمة في حالة “عزلة شعورية” عن المجتمع، دون أن يكون هناك تحريض مباشر على العنف، ولكن بطريقة تجعل المسلمين يشعرون أنهم “مستهدفون دائمًا” أو “محاصرون فكريًا”، وهو ما يخلق حالة من القلق والرفض المستمر للاندماج.

ما الذي يثير القلق؟

هناك عدة أفعال وسلوكيات من بعض الدعاة العرب في بريطانيا تجعل الأمر لا يدعو للتفاؤل، ومنها:

  1. ازدواجية الخطاب: بعض الدعاة يتحدثون بخطاب متزن في الإعلام والمنصات المفتوحة، لكن في الجلسات المغلقة أو عبر تطبيقات مشفرة، يظهر وجه آخر تمامًا، حيث يتم تحريض الشباب على رفض المجتمع الغربي ومؤسساته، وتصويره وكأنه عدو للإسلام.
  2. التأثير على الشباب: نظراً لطبيعة المجتمعات المسلمة في بريطانيا، التي تتكون غالبًا من أبناء مهاجرين يبحثون عن هويتهم في بيئة مختلفة، يجد هؤلاء الشباب في بعض الدعاة شخصيات جذابة تمنحهم الشعور بالانتماء، لكن هذا الانتماء يُغذّى أحيانًا على حساب علاقتهم بمحيطهم الأوروبي، مما يجعلهم يعيشون ازدواجية خطيرة بين “أن تكون مسلمًا حقيقيًا” أو “أن تكون جزءًا من المجتمع البريطاني”.
  3. التقليل من أهمية القوانين والقيم الغربية: بعض الدعاة لا يهاجمون المجتمعات الأوروبية بشكل مباشر، لكنهم يعمدون إلى التشكيك في مفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية الفردية، والاختلاط، والعمل في المؤسسات الحكومية، مما يدفع البعض إلى العيش في عزلة عن مجتمعاتهم، أو رفض الاندماج على أساس ديني.
  4. علاقات مشبوهة وتمويل خارجي: العديد من الدعاة في بريطانيا لهم ارتباطات بجهات خارجية توفر لهم الدعم المالي والإعلامي، وهو ما يجعلهم أحيانًا مجرد أدوات لتنفيذ أجندات معينة لا تخدم الجاليات المسلمة بقدر ما تستخدمها لتحقيق أهداف سياسية بعيدة عن روح الدين.

بريطانيا والرقابة على الدعاة

في السنوات الأخيرة، بدأت السلطات البريطانية في فرض رقابة مشددة على الأنشطة الدعوية، خصوصًا بعدما ثبت تورط بعض الدعاة في نشر أفكار متطرفة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد قامت الحكومة البريطانية بمنع دخول بعض الشخصيات الدينية المعروفة بتحريضها على الكراهية، وسحبت تأشيرات بعض الدعاة الذين ثبتت علاقاتهم بجهات متشددة.

لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في الرقابة، بل في التلاعب بالقوانين، حيث يستغل بعض الدعاة هامش الحرية الموجود في بريطانيا لنشر أفكارهم، مستفيدين من القوانين التي تحمي حرية التعبير، مما يجعل السلطات عاجزة أحيانًا عن مواجهتهم بشكل مباشر.

ما الحل؟

إذا كنا نؤمن بأن الإسلام في أوروبا يجب أن يكون متصالحًا مع القيم الإنسانية الجامعة، فإن الحل يكمن في:

  • تعزيز دور المؤسسات الإسلامية المعتدلة، بحيث لا تترك الساحة للدعاة المتشددين الذين يستغلون الفراغ الموجود.
  • دعم خطاب إسلامي متزن يتناسب مع متطلبات الحياة في أوروبا، ويراعي القوانين المحلية ويشجع المسلمين على الاندماج الإيجابي دون التخلي عن هويتهم.
  • متابعة مصادر التمويل، لأن الكثير من الدعاة يحصلون على تمويل خارجي يجعلهم يعملون وفق أجندات غير نزيهة.
  • إطلاق مبادرات فكرية وتعليمية داخل الجاليات المسلمة، تقدم رؤية أكثر عقلانية للإسلام بعيدًا عن التطرف أو العزلة عن المجتمع.

الخاتمة: ضرورة إعادة النظر

نحن لسنا ضد الدعاة العرب، بل على العكس، نؤمن بأن هناك حاجة حقيقية لوجود خطاب إسلامي في أوروبا يساعد المسلمين على التعايش بشكل متوازن. لكن عندما تتحول بعض المنابر الدعوية إلى أدوات لبث العزلة والتشكيك في قيم المجتمعات الغربية، فإن الأمر يصبح مقلقًا. بريطانيا ليست بحاجة إلى دعاة يغذّون مشاعر العداء والكراهية، بل إلى أصوات عقلانية تعكس روح الإسلام الحقيقية، التي تقوم على التسامح والتعايش واحترام الآخر.

في النهاية، السؤال الذي يبقى مطروحًا: متى يدرك هؤلاء الدعاة أن الإسلام لا يحتاج إلى “حرب فكرية” في أوروبا، بل إلى تقديم نموذج حضاري يُحتذى به؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.