الذين يكتبون عن الميوعة… وينسون أنهم من صناعها!

محمد صابر
في زمن الانفجار الإعلامي، لا تخلو ساحة الصحافة من صراخ بعض الأقلام التي تتباكى على “الميوعة” و”الانحطاط” في الجسم الصحفي، وهي نفسها التي تدس السم في العسل، وتحترف النفاق بكل أطيافه. تراهم يتحدثون عن “الكرامة”، عن “الرسالة النبيلة”، عن “أخلاقيات المهنة”، بينما حقيقتهم أبعد ما تكون عن الشرف المهني… أقرب إلى أسلوب “آش كاين؟ فين المصالح؟ شي أرض”.
يأكلون الغلّة ويلعنون الملّة
هناك فئة ممن يسمون أنفسهم “صحافيين”، تعيش على فتات الموائد وتخمة الامتيازات، وتلبس عباءة الغيورين على المهنة والوطن… لكن حين تُقلب صفحاتهم، نجد العجب العجاب.
هم أول من يتسابق إلى الولائم الرسمية، أول من يمد يده للمكافآت غير المعلنة، وأول من يغيّر مواقفه كما يغير قميصه، كلما تغيّر “الطباخ السياسي”.
هؤلاء لا يتورعون عن القفز من مركب إلى آخر. يهلّلون ويصفقون ما دام في ذلك مكسب، ثم ينتقلون إلى جلد نفس “الجهة” التي كانت بالأمس القريب محطّ مديحهم الغزير.
هم بالفعل “يأكلون الغلة ويلعنون الملّة”، ينهشون من الصحافة اسمها وشرفها، ويقدّمون دروسًا في النزاهة، وهم في الواقع “مرتزقة المواقف”، لا ينتمون لأي مبدأ، ولا يتحركون إلا إذا أشار إليهم البنك أو الوزير أو هاتف في الليل يقول: “غادي نصيفط ليك شي قهوة مع شي ظرف”.
صحافة بلا قلم ولا فكر
المصيبة ليست في هؤلاء فقط… بل في الصنف الآخر، الذي لا يميز بين الفاعل والمفعول به، والذي لو طُلب منه تحرير توصية أو بلاغ بسيط لملأه بالأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية والكارثية.
ورغم هذا، يقدّم نفسه كـ “صحافي أو مسؤول إعلامي”، بل ويجلس في الصفوف الأولى للندوات، يُدلي بـ “تحليلاته”، ويشرح الوضع الإعلامي كما لو كان ناطقاً رسمياً باسم نقابة الصحافة الأممية!
هؤلاء الذين بالكاد يعرفون كيف يُكتب “عنوان”، يحتلون مناصب باسم “التموقع” و”المعرفة الخاصة”، ويتحدثون عن “الرسالة الصحفية” وهم بالكاد يميزون بين الخبر والتعليق.
والكارثة؟ حين يعترض صحافي شاب متمكن من أدواته، يُتهم بأنه “عندو النفس طويل بزاف”، أو أنه “ماشي ديال هاد الشي”… كأنّ الصحافة أصبحت وقفا على الجهل والتطبيل.
مرتزقة الغيرة المصطنعة
ثم هناك صنف آخر، أخطر من سابقَيه، أولئك الذين يدّعون الغيرة على الوطن، على المجتمع، على القيم، بينما هم في الحقيقة أبطال في السباحة مع التيار، أيّ تيار… المهم أن يكون هو الأقوى.
هم لا مبدأ لهم، ولا موقف.
يكتبون مع من يدفع، يسبّون من لا يمنحهم الحقيبة، يتلونون وفق درجة حرارة السوق السياسي.
يُجهدون أنفسهم في تلميع صورة جهة معينة، ثم إذا ما تغيّر مزاج المرحلة، تجدهم انقلبوا 180 درجة. والكل يعرفهم، لا لأنهم مؤثرون أو محترفون، بل لأنهم بارعون في استغلال الفوضى الإعلامية.
لا يكاد يمر لقاء أو تظاهرة أو ندوة أو جلسة فيها مصور أو وزير أو “قهوة فابور”، إلا ووجدتهم في الصف الأمامي، يعدّون الأنفاس، يسجلون الحضور، ويأخذون صورة “للأرشيف الشخصي” كي يفاوضوا بها لاحقاً.
روّاد المكاسب السريعة دون محتوى
ونحن هنا لا نتحدث عن أولئك الأشخاص الذين نعرفهم جيدًا، من فئة “الاستفادة السريعة” الذين لا يترددون في طلب أي شيء دون بذل أي جهد، مثل أن يطلبوا “ماء” أو “وجبة خفيفة” قبل أن يهتموا بمحتوى اللقاء أو الندوة. هؤلاء الذين يأتون فقط للحصول على مكاسب سريعة دون أن يكون لهم أي دور حقيقي في النقاش أو الفائدة العامة.
لا، حديثنا أعمق من ذلك، عن أولئك الذين جعلوا من الصحافة وسيلة للوصول، لا وسيلة للتنوير.
عمن يكتب افتتاحيات نارية… ثم تراه في المساء يطلب رقم مسؤول حكومي “باش يسلك شي مصلحة شخصية”.
كلمات ختامية… بلا مجاملة ولا تزييف
الصحافة مهنة نبيلة وشريفة، حقًا، ولكنها تظل كذلك فقط حين ينهض بها أصحاب الضمائر الحية والمبادئ الثابتة. أمَّا حين يحتلّها «الهمزاويون» و«المدّاحون» و«الجهلاء»، فإنها تتحول إلى آلة تمييع متقنة، تشارك -بوعي أو بغير وعي- في تزييف وعي الشعوب وطمس الحقائق.
والصمت اليوم عن هذا الواقع مؤامرة صامتة، فمن يلتزم الصمت يصبح شريكًا، ومن يصفّق للطابور الخامس هو طبّالٌ آخر في سيرك ضخم اسمه «صحافة الامتيازات».
وبكل صدق وشفافية، نعترف أننا كثيرًا ما نخجل حين نُعرّف عن أنفسنا كصحافيين، لا سيما في بلد يكاد أغلبه يفضل البيع والشراء على المبدأ، بلدٍ تُهمّش فيه الكلمة الصادقة، وتموت فيه مبادئ كثيرة قبل أن نموت نحن.