مجتمع

الرجل بين ثلاث نساء: اسمها السلطة، كنيتها المال، ووجهها امرأة

ضربة قلم

ثلاثة يقاس بها الرجل: السلطة، المال، والمرأة.
عبارة تُتداول على الألسن كأنها مسلّمة نهائية، مثل قوانين نيوتن، أو مثل شاي صباح الاثنين في المقاهي. لكنها في الواقع خريطة معقدة لطبيعة بشرية هشّة تحاول أن تخفي ضعفها خلف قلاع من السيطرة، والأوراق النقدية، والأجساد التي تلتف حول الطاولة. فلنغص إذًا، وبدون سترة نجاة، في هذا البحر المالح.

أولًا، السلطة.
السلطة هي ذاك الشيء العجيب الذي يجعل الإنسان -خصوصًا الذكر في مجتمعاتنا-  يشعر بأنه فوق القانون، فوق المنطق، وأحيانًا فوق البشر. من رئيس جمعية يوزع التزكيات كأنه البابا، إلى مسؤول بلدي يسير الشأن العام كأن المدينة ضيعته. السلطة لا تقاس فقط بالكرسي أو المنصب، بل حتى بنظرة “أنا فوقك” التي يمكن أن يلقيها رجل سلطة على امرأة في تمارة، مدير على موظف، أو رجل على امرأة، أو غني على فقير. وفي أغلب الأحيان، تُختبر رجولة الرجل ليس بما يملك من قيم، بل بما يستطيع فرضه بالقوة أو بالحيلة أو الذكاء الخبيث.

لكن المضحك المبكي أن السلطة في جوهرها اختبار قاسٍ للإنسان، لا للرجل فقط. فهي تُعرّيك: إما أن تظهر فيها بشرفك، أو تنكشف كل عوراتك الأخلاقية. ومن هنا، فالرجل الذي تقيسه السلطة هو في الحقيقة رجل يتعطّش للسيطرة لأنه لا يثق في نفسه، مثل طفل يحمل صافرة شرطة ويلعب بها لأنه يخاف العالم.

ثم نأتي إلى المال.
آه المال… ذاك الساحر القذر.
المال عند كثير من الذكور ليس وسيلة للعيش الكريم، بل أداة إثبات رجولة. يريد بيتًا فخمًا لا ليسكنه، بل ليستعرضه. يشتري سيارة ليست للتنقل بل لقتل عقدة النقص. يسهر في الأماكن الفاخرة لا ليحتفل بالحياة، بل ليقنع نفسه أنه “وصل”. وفي العمق، المال هو لغة الرجولة المستعارة، تلك التي يتحدث بها من لا يجد لغة أعمق.

لكن المال أيضًا لعنة، لأنه لا يروي. وكلما امتلك الرجل أكثر، كلما زادت حاجته لأن يُبرر لنفسه لماذا لا يزال تعيسًا، خائفًا، مشكوكًا في نفسه. فينتهي به المطاف في دوامة الإنفاق على مظاهر لا تُغني ولا تُشبع، كمن يجرّب أن يملأ قلبه بورق الزبدة. أما حين يجتمع الجهل مع المال، يتحول الغبي من مصدر إزعاج… إلى مشروع كارثة تمشي على أربع عجلات فارهة.

ثم تأتي المرأة، وهنا ينكسر المعيار وتنكشف الخرافة.
لأن فكرة “يقاس الرجل بالمرأة” هي سكين ذو حدّين. البعض يظن أن “عدد النساء” أو “نوعية النساء” هو مقياس رجوليته، فيتحول إلى صيّاد، إلى متباهٍ، إلى من يجمع النساء كأوسمة حرب، لا ككائنات حية لها مشاعر وعقول. وهناك من يقيس رجولته بقدرة السيطرة على امرأة واحدة: الزوجة، الخطيبة، الصديقة… فإن خضعت له، فقد “أثبت” أنه رجل. وإن تمرّدت عليه، شعر أن ذكورته في خطر.

وفي الحقيقة، المرأة ليست معيارًا للرجل، بل مرآة.
فإن كنتَ رجلًا بمعنى الكلمة، ستكشف لك المرأة من أنت: هل أنت حنون أم عنيف؟ متفهّم أم متسلّط؟ واثق أم هشّ؟
المرأة تكشفك، لا تُقيسك. وإن ظننت أنك تقيس نفسك بها، فأنت كمن يحاول أن يعرف طوله من خلال ظلّه عند المغيب.

فيا صديقي (تي)، المقاييس الثلاثة: السلطة، المال، والمرأة، ليست اختبارات للرجولة، بل اختبارات للإنسان.
السلطة قد تفسد، أو تُطهّر، بحسب القلب الذي يمسك بها.
المال قد يُغني الروح، أو يُفسدها، بحسب نية اليد التي تصرفه.
والمرأة قد تكون شريكة، أو رهينة، بحسب العقل الذي يراها.

الرجل الحقيقي ليس من ينجح في السيطرة على هذه الثلاثة، بل من يتجاوزها. من يفهم أن القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الخاضعين له، بل بعدد من يشعرون بالأمان بقربه. إن المال ليس ما يُنفقه على الآخرين ليُعجبهم، بل ما يُنفقه ليصنع شيئًا يستحق البقاء. وإن المرأة ليست وسيلة لإثبات الذات، بل فرصة لتشارك الحياة، في ضعفها، وقوتها، وجنونها.

ويا ليت المجتمعات العربية تفهم هذا، بدل أن تربي أبناءها على مقولة “كبر وكون راجل”، دون أن تسأل أبدًا: شنو هو الرجل أصلاً؟

لأن الرجولة، في نهاية المطاف، ليست شيئًا يقاس. بل شيء يُعاش، ويُحسّ، ويُترجم في المواقف، لا في عدد الأصفار أو عدد القهرات.

فهل نُعيد صياغة المقياس؟ أم نظل نعيش ذكورة مأزومة، تقيس نفسها بثلاثة أوهام؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.