
ضربة قلم
“الزين كيحشم على زينو والخايب غير يلا هداه الله” عبارة مغربية خالدة تختزل في كلمات قليلة فلسفة اجتماعية عميقة، لكنها، ويا للمفارقة، تُسحب في الحياة الواقعية من جيب الحكمة لتُفرغ على رؤوس الناس سخريةً وسُبابًا مموّهًا. نسمع من حين لآخر تصريحات تستفز المشاعر وتخدش الذوق وتبعثر منطق الأشياء، وحين تتبع أثرها لتكتشف من الذي تفوّه بها، تجد أمامك تجسيدًا حيًا للمثل المغربي الذي يجعل من “الزين” خجولًا بطبعه، ومن “الخايب” مدفوعًا بـ”قوة وجه” لا تُكسر إلا بتدخل سماوي مباشر، شيء من قبيل المعجزة، لأن الأمل في صحوة ضمير عنده مثل انتظار المطر في عز يوليوز.
تسمع شخصًا يتحدث عن الأخلاق في السياسة، فإذا به من جوقة الذين إن فتحت ملفاتهم، وجدت الرشوة ملفوفة في العفة، والمحسوبية مربوطة في شعار الشفافية. تسمع آخر يندب حال التعليم وهو لا يعرف الفرق بين “التاء” و”الطاء”، لكنه لا يتردد في لوم التلاميذ والمدرسين وحتى الطباشير. وآخر يصرخ في وجوه الشباب مطالبًا إياهم بالعمل والكد، وهو لم يعمل في حياته إلا على تمليس الكرسي الذي جلس عليه منذ أن استيقظ على نعمة الواسطة.
المشكلة ليست فقط في أن “الخايب” يتكلم، بل في أنه يفعل ذلك بثقة من يظن أن ما يقوله وحي لا يأتيه الباطل من بين شفتيه ولا من خلفه. يتحدث عن القيم كأنه أبو القيم، وعن المبادئ كأنه اكتشفها قبل أن يولد أفلاطون. والأدهى من ذلك أن هذا “الخايب” (ة) لا يحس بأي حرج حين ينتقد “الزين”، بل ينظر إليه من علٍ وكأن خجله من زينه ضعف وليس رقيًا.
الواقع أن هناك فئة من الناس تجلس على ركام من التناقضات، لكنها ترتدي عباءة “الواعظ”، لا لشيء سوى لأنها تملك حنجرة قوية وثقة في النفس غير قابلة للكسر، ثقة قد تُلهِم كتّاب علم النفس لتأليف كتب جديدة عن “عجائب النرجسية الاجتماعية”. وإذا حدث أن رد عليهم أحد أو ناقشهم في خزعبلاتهم، فإنهم يتقمصون دور الضحية ويتحولون في لمح البصر من مهاجمين إلى مظلومين، مرددين بكاءً “واش ما عندناش الحق نهضرو؟”.
ومن زاوية أخرى، يظل “الزين” مترددًا، خجولًا، يخاف أن يُساء فهمه، يخشى أن يُحسب كلامه على غرور أو تبجّح، فيصمت. يزن كلماته بميزان الذهب، يتجنب الاصطدام، لا لأنه عاجز عن الرد، بل لأنه يعرف أن مناقشة الجهلاء مضيعة للوقت، وكأنك تنفخ في قربة مثقوبة. فيفضل أن يتوارى، يترك لهم الساحة، فيتحول المشهد إلى مسرح عبثي تُرفع فيه راية الرداءة باسم حرية التعبير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: إلى متى سيبقى “الزين” يحشم؟ ومتى سيخرج عن صمته ليرد الصاع صاعين؟ أم أن خجله قدر لا فكاك منه، وأن الخايب سيظل في حالة شرود، يصول ويجول، مدفوعًا بثقة لا تستمد مشروعيتها من شيء سوى غياب من يوقفه عند حده؟
الحاصل في النهاية أننا نعيش في زمن صار فيه الهراء يُكافأ، والحياء يُصنَّف ضعفًا، وكل من التزم الصمت نُعت بـ”ما عندوش شخصية”، وكل من صرخ وصك على الطاولة صار “راجل وقاف”. ولا عجب في ذلك، فكما قال أحد الحكماء ذات زمن: “إذا صارت التفاهة معيارًا، صار العقل تهمة”.