
ضربة قلم
قبل أن نبدأ، دعونا نأخذ دقيقة صمت احترامًا لأيام السردين الجميلة، حين كان الرجل المغربي يعود من العمل منهكًا، فيجد أمامه طبقًا بسيطًا من السردين المقلي، مع سلطة طماطم وفلفل، وكأس شاي بالنعناع، ليشعر أنه ملك زمانه! أما اليوم، فقد أصبح السردين نجمًا اقتصادياً بامتياز، ينافس في صعوده أسعار العقار، وكأنه يستعد للالتحاق بمؤشرات البورصة!
سردين أم ذهب؟
السردين، هذا الكائن البحري البسيط الذي لطالما كان يُلقب بـ”سمك الفقراء”، قرر أن يخلع هذا اللقب المهين ويرتقي إلى مقام النخبة. فها هو اليوم يعلن استقلاله عن طبق الكادحين، ويرفع سعره إلى 25 درهمًا للكيلوغرام الواحد، في حركة تمرد اقتصادية تستحق التحليل والتأمل.
في زمن مضى، كان السردين حلّال المشاكل الغذائية، فهو صديق الطلبة، رفيق العمال، وزائر وفيّ لموائد الأسر المتوسطة. كان في متناول الجميع، حتى إن بعض التجار كانوا يصرخون في الأسواق: “سردين.. سردين.. أرا بدرهمين أ مول الكرااااااااء!” واليوم؟ هذا السعر بالكاد يكفيك لرائحة السردين، أما تذوقه فأصبح امتيازًا لمن استطاع إليه سبيلاً.
بين العرض والطلب: من المسؤول عن جنون الأسعار؟
الاقتصاديون سيخرجون علينا بنظرياتهم المعهودة:
- قلة العرض؟ البحر في إضراب! الأسماك تحتج على ظروف العمل، وربما تطالب بـ”حقوق التقاعد”!
- زيادة الطلب؟ يبدو أن المغاربة قرروا فجأة أن السردين هو الحل السحري لكل مشاكلهم الغذائية!
- المضاربون والسماسرة؟ هؤلاء لا تفوتهم فرصة، فكما رفعوا أسعار العقار والخضر والفواكه، قرروا الآن أن يفرضوا الضريبة على وجبة “سردينة مشوية”.
أما المواطن، فكل ما يعرفه هو أن ثمن السردين صار أشبه بتمارين القلب: يرتفع فجأة، فيزيد من دقات قلبه، ثم يتذكر أنه يعيش في المغرب، فيهدأ قليلاً، لأن المفاجآت لم تعد تفاجئه.
السردين والطبقات الاجتماعية: عدالة بحرية مفقودة!
إذا استمر الوضع على هذا الحال، فسنصل إلى اليوم الذي يصبح فيه السردين “برستيجًا اجتماعيًا”، حيث لن يتجرأ أحد على أكله إلا في المناسبات الكبرى. ربما سيبدأ الناس في التقاط صور مع طبق السردين ونشرها على إنستغرام مع هاشتاغ: #عيش_الرفاهية.
ولأننا شعب مبدع، فقد نرى ولادة أسواق جديدة:
- سوق السردين الفاخر: حيث تُعرض الأسماك في علب ذهبية، مع شهادة جودة، واسم العائلة البحرية التي تنتمي إليها السمكة!
- مطاعم الذواقة البحرية: حيث يُقدم السردين على طريقة “سردين لافيات”، مع صلصة الزعفران، وبسعر يليق بفخامته الجديدة.
- قروض شراء السردين: بما أن العقار أصبح مستحيلاً، قد تظهر بنوك تقدم قروضًا لشراء كيلوغرام من السردين بالتقسيط، مع هامش فائدة معقول.
إلى أين؟
الأسعار في المغرب تتحرك وكأنها في سباق ماراثوني، لكن دون أن يعلم أحد متى ستتوقف. واليوم، السردين أصبح رمزًا لهذا العبث، حيث لم يعد مجرد سمكة بل تحول إلى مؤشر اقتصادي، يعكس واقع الأسعار، والمضاربات، وقدرة المواطن على التحمل.
فهل سيستمر السردين في قفزته الجنونية؟ أم أن البحر سيقرر منحنا هدنة ويعيد لنا “سمك الفقراء” بأسعاره القديمة؟ إلى ذلك الحين، يبقى الحل الوحيد هو التحديق في البحر، وانتظار أن ترسل لنا الأمواج بعض الخير، دون تسعيرة مسبقة.