مجتمع

السكر أو السم الأبيض: الطريق الحلو نحو مرض العصر

نعيمة الشرقاوي

السكر، أو ما يُعرف بالسم الأبيض، أصبح عنصرًا محورياً في حياة الإنسان المعاصر، لكنه أيضاً من أكثر المواد إثارة للجدل في الطب الحديث، والتغذية، والصحة العامة. يتسلل إلى أجسادنا بطرق ناعمة ومغرية، من الحلويات والمشروبات الغازية إلى حتى بعض الأطعمة “المالحة” التي لا نظن أنها تحتوي عليه. ومع هذا الانتشار الواسع للسكر في نظامنا الغذائي، تزايدت معه الإصابات بداء السكري، لا سيما النوع الثاني، الذي يرتبط أساساً بنمط الحياة وسوء العادات الغذائية.

داء السكري لم يعد مرضاً نادراً أو غريباً، بل صار من الأمراض المزمنة الشائعة التي يتعايش معها ملايين البشر يومياً. الخطير في الأمر أن هذا المرض لا يُعلن عن نفسه فجأة، بل يتسلل ببطء إلى الجسم، ليمكث فيه بصمت لسنوات، إلى أن تظهر مضاعفاته في شكل إرهاق مزمن، اضطرابات في الرؤية، ضعف في التئام الجروح، مشاكل في الكلى أو الأعصاب، وقد يصل إلى بتر الأطراف أو أزمات قلبية وسكتات دماغية في أسوأ الحالات. هو داء لا يقتل في لحظة، بل يُنهك الجسم رويداً رويداً، وربما كان هذا ما يجعل التعامل معه أكثر تحدياً: فهو خفي، خادع، ومرتبط بأحد أكثر الأشياء التي نحبها ونرغب فيها… السكر.

ما يجعل السكر أشبه بـ”السم الأبيض” ليس فقط ضرره المباشر، بل استهتار الناس بخطورته. فكم من شخص مصاب بالسكري يصر على تناول الحلويات “قليلاً فقط” أو ينسى أهمية ممارسة المشي اليومي، أو يتعامل مع الأدوية كأنها كافية لعلاج جذور المشكلة؟ في الواقع، التعامل مع السكري لا يقتصر على الدواء، بل يحتاج إلى نمط عيش متكامل: حمية غذائية متوازنة، نشاط بدني منتظم، وانضباط نفسي في مقاومة الإغراءات الغذائية. السكر لا يعمل بمفرده، بل يشتغل في تحالفات خفية مع الكسل، والإفراط، والجهل بالمخاطر، والإعلانات التجارية التي تقدم لنا الكعك والشوكولاتة والمشروبات السكرية كأنها مفاتيح السعادة.

ومن المثير أن الجسم البشري لا يحتاج فعلياً إلى السكر المكرر. فكل ما يحتاجه من سكريات يمكن أن يحصل عليه من الفواكه والخضروات، ومن الكربوهيدرات المعقدة الموجودة في الحبوب الكاملة. لكننا في زمن السرعة واللذة اللحظية نميل إلى كل ما هو جاهز وسهل وسريع الامتصاص، حتى لو كان ذلك على حساب صحتنا وحياتنا. الأطفال اليوم يُعوَّدون منذ الصغر على نكهات مصنعة محلاة بشكل مفرط، فيصبح ذوقهم الطبيعي مختلاً، ويصيرون بالغين مدمنين على السكر دون وعي.

الخطورة أيضاً أن بعض الأشخاص لا يملكون ثقافة غذائية كافية تُمكّنهم من تمييز “السكر المخفي” الموجود في أغذية كثيرة لا تبدو حلوة في الظاهر، مثل صلصات الطماطم الجاهزة، الزبادي المنكه، الخبز الأبيض، وبعض المعلبات وحتى الشوربات الفورية. كل هذه المنتجات تحتوي على نسب من السكر تسهم بشكل غير مباشر في رفع معدل الغلوكوز في الدم، وإرهاق البنكرياس، وتحفيز السمنة، التي بدورها ترفع من احتمال الإصابة بالسكري وأمراض القلب.

المؤلم في داء السكري أنه في كثير من الحالات يمكن الوقاية منه أو تأخير ظهوره بشكل كبير، لكن غياب الوعي الغذائي، والانجراف وراء الإعلانات والأكل العاطفي، والتهاون مع الوزن الزائد، كلّها عوامل تُضعف فرص الحماية وتفتح الباب على مصراعيه للمرض. الأسوأ من ذلك أن بعض المجتمعات صارت تتعامل مع السكري كأنه أمر عادي، وكأن التعايش معه لا يحتاج إلى يقظة يومية وحذر مستمر. بل إن البعض يستخدم مرضه كذريعة لطلب المزيد من الرعاية والشفقة، دون أن يبذل جهداً حقيقياً لتغيير عاداته اليومية.

في النهاية، السكر ليس مجرد مادة بيضاء تُحلّي القهوة أو تُضاف إلى الحلويات، بل هو رمز لحياة استهلاكية فقدت توازنها. هو العدو الناعم الذي يدخل إلى منازلنا بابتسامة حلوة، لكنه قد يغادرنا بعد أن يترك أجسادنا مثقلة بالأدوية والزيارات الطبية والمضاعفات المؤلمة. وفي زمن كثرت فيه الأطعمة المصنّعة والمشروبات السكرية المغرية، بات من الضروري أن نعيد التفكير في علاقتنا بالسكر، لا كخيار غذائي، بل كقرار حياتي. فإما أن نكون أسياد أذواقنا، أو عبيداً لحلاوة قد تُكلّفنا غالياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.