السنة السادسة: حين يتحوّل امتحان صغير إلى أزمة مجتمعية كبرى

ضربة قلم
بين 23 و24 يونيو، يجتاز عشرات الآلاف من تلاميذ السنة السادسة ابتدائي عبر مختلف جهات المملكة امتحانًا يُفترض أنه بسيط، لكن ما يرافقه من مشاهد وتبعات يجعلنا أمام ظاهرة لا يمكن تجاهلها. فرغم أن وزارة التربية الوطنية لم تُعلن رسميًا عن العدد الإجمالي للمترشحين، تشير التقديرات إلى أنه يتراوح بين 300 و350 ألف تلميذ وتلميذة. ومع ذلك، فإن ما يلفت الانتباه ليس فقط حجم الحدث، بل الطريقة التي يعيش بها المجتمع هذا الامتحان: كطقس جماعي، وكأنه عبور من الطفولة إلى المجهول.
لكن هل يُعقل أن يتحوّل امتحان نهاية السلك الابتدائي إلى استنزاف نفسي، واجتماعي، واقتصادي؟ الأهم من هذا: هل هذا “الدعم” المكثّف من الأسر يبني فعلًا شخصية الطفل، أم يرسّخ فيه التبعية والخوف من الفشل؟
اصطحاب جماعي يُضعف الاستقلالية
في مشهد متكرّر كل سنة، نرى آباء وأمهات يرافقون أبناءهم إلى مراكز الامتحان، يغيّرون برامج عملهم، يؤجلون التزاماتهم، ويتحولون إلى مرافقين، ومساعدين نفسيين، وأحيانًا مدرّسين في اللحظات الأخيرة. هذا السلوك، وإن بدا نابعًا من حب، إلا أنه يحمل في طياته خطرًا تربويًا صامتًا: إنه يُفرغ المدرسة من دورها التكويني، ويُعزز لدى الطفل شعورًا بأنه لا يستطيع أن يواجه مسؤولياته دون مرافقة دائمة.
عوض أن يكون الامتحان فرصة لبناء شخصية مستقلة، وواثقة، وهادئة، يتحوّل إلى لحظة قلق جماعي، يُحاصر فيها الطفل بالتوجيه والضغط والإملاءات، فيفقد القدرة على اتخاذ القرار أو تحمّل المسؤولية وحده.
دعم لحظي أم انخراط تربوي مستدام؟
يُبرر كثير من الآباء هذا الاصطحاب بالرغبة في “دعم” أبنائهم، لكن السؤال الجوهري هو: أين كان هذا الدعم طوال السنة الدراسية؟ وهل الدعم الحقيقي هو في حمل المحفظة في يوم الامتحان، أم في متابعة مستمرة، هادئة، ومنهجية لنقاط ضعف التلميذ على مدار العام؟
إن الدعم المفاجئ، في آخر اللحظات، لا يترك أثرًا تربويًا حقيقيًا، بل يخلق نوعًا من “الاعتماد غير الصحي” على الأسرة. ما يحتاجه الطفل هو أن يتعلم كيف يواجه، يُخطط، يُراجع، ويُجرب، لا أن ينتظر من ينوب عنه في كل لحظة توتر.
خسائر اقتصادية صامتة
وراء هذا المشهد “الأسري الجميل” تختبئ خسائر اقتصادية غير مرئية:
-
عشرات الآلاف من الأمهات، خصوصًا العاملات في معامل أو قطاعات غير مرنة، يضطررن إلى ترك العمل يومًا أو يومين.
-
عدد مماثل من الآباء يُغيبون عن ورشاتهم أو أعمالهم الحرة.
-
بعض العائلات تضطر إلى كراء وسيلة نقل خاصة، أو تغيير مكان إقامتها مؤقتًا لتكون قريبة من مركز الامتحان.
لو افترضنا فقط أن 150 ألف أسرة تغيّب أحد الوالدين عن عمله ليوم واحد، فإننا أمام ما يعادل:
150,000 × 100 درهم (كأقل تقدير) = 15 مليون درهم خسارة مباشرة في يوم واحد، دون احتساب الإنتاجية، أو التأثير على خدمات موازية.
امتحان أم استنزاف؟
النظام التعليمي، في صيغته الحالية، يبدو غير مبالٍ بكل هذه التكاليف المجتمعية. لا تُطرح الأسئلة الضرورية حول منطق البرمجة، ولا يُؤخذ بعين الاعتبار واقع الأسر التي تغيّر كل شيء فقط لأجل ساعات محسوبة من الامتحان.
لماذا لا يُجرى هذا الامتحان في عطلة نهاية الأسبوع؟ لماذا لا يتم التفكير في مركزية أقل، أو اعتماد امتحان داخلي لا يُربك الأسر؟ لماذا لا تُوفر حلول نقل جماعية مؤقتة دون خسارة أجر؟
بين دعم زائف وتربية مغيّبة
ربما علينا الاعتراف بأن ظاهرة اصطحاب التلاميذ لا تعكس دائمًا “حبًا” فقط، بل تكشف أيضًا عن فقدان الثقة في المنظومة، وخوف جماعي من الفشل، وإحساس بأن الدولة لن تضمن للأبناء العدالة ولا الإنصاف.
لكن حين يتحوّل هذا الخوف إلى نمط تربوي دائم، فإننا نُنتج أجيالاً غير مستقلة، قلقة، وغير جاهزة للحياة.
خاتمة: من يفشل في بناء شخصية الطفل؟
الطفل في نهاية المطاف، لا يجتاز امتحان السنة السادسة فقط. إنه يجتاز اختبارًا للدولة، للمدرسة، وللأسرة.
وإذا كان لا يُسمح له بأن يخطو هذه الخطوة بمفرده، فمن المسؤول عن ضعف شخصيته لاحقًا؟
أليس من المفارقة أن يكون أول اختبار رسمي في حياته، هو نفسه أول درس في الارتهان وعدم الثقة بالنفس؟
إذا كنا نُريد مدرسة منتجة، ومجتمعًا مسؤولًا، وأطفالًا مستقلين، فلا بد أن نعيد النظر جذريًا في فلسفة الدعم، وطبيعة الامتحان، وطريقة تفاعلنا معه كأسر ومؤسسات.




