مجتمعسياسة

السياسة بلا خجل: حين تصبح الفضيحة وسام شرف!

ضربة قلم

نحن أمةٌ عجيبةٌ بحق، شعبٌ يلعن الفساد بلسانه ويمارسه بيديه، يسبّ الكذابين وهو يصطفّ في طوابير خلفهم، يستهجن اللصوصية، لكنه يغمز بعينه لممارسيها، فقط إن كان نصيبه من الغنيمة مضمونا. نحن بارعون في فن التناقض، نحلل لأنفسنا ما نحرمه على غيرنا، ونرفع الشعارات الأخلاقية حينما نكون في موقع الضعف، ثم نرميها تحت أقدامنا حينما نصعد إلى مواقع النفوذ.

السياسيون عندنا، أو بالأحرى فنانو “التخلويض السياسي”، لا يكذبون فقط، بل هم الكذب مجسّدًا في هيئة بشر. في الدول التي تحترم شعوبها، يكفي أن يتورط مسؤول في فضيحة أخلاقية أو مالية ليقف أمام الكاميرات ويعلن استقالته وهو مطأطئ الرأس، ثم يختفي عن الأنظار وهو يعضّ على أصابع الندم. أما في جمهوريات “الحبة والبارود”، حيث السياسة ليست خدمة عامة بل أقرب إلى شركة استثمارية خاصة، فالفضيحة هي مجرد محطة استراحة قصيرة قبل العودة بزخم أقوى. هل تظن أن أحدهم سيختبئ بعد ضبطه متلبسًا بسرقة، أو بعد تسريبات لمكالمات تثبت أنه كان يبيع الأصوات في سوق نخاسة ديمقراطية؟ أبدًا، بل سيخرج للعلن رافعًا رأسه وكأن الأمر لا يعنيه، وستجد بعض أتباعه يهتفون له وكأنه خرج من السجن ظلما وعدوانا، لا لأن يده كانت أطول من جيب الدولة.

خذ مثلًا ذلك السياسي الذي تم ضبطه متلبسًا داخل الغرفة الثانية وهو يعقد الصفقات على الهاتف، ليس لشراء عقار أو التفاوض على استيراد السيارات، بل لشراء الأصوات بالجملة، كأنما هي أكياس طحين في سوق شعبي. نفس الرجل، بعد أن قضى فترة سياحية في السجن، لم يتوارَ عن الأنظار، لم يذهب للتعبد في الدير، لم يهاجر بحثًا عن مهنة شريفة، بل عاد كأن شيئًا لم يكن، مباشرة إلى الجماعة المحلية التي كان فيها مستشارًا، وكأن السياسة عندنا نوع من المرض المزمن الذي لا علاج له.

هذه الجرأة ليست عادية، هذه “قلة الحياء” ليست متاحة للجميع، بل هي امتياز حصري لأولئك الذين فهموا اللعبة جيدًا. في بلادٍ أخرى، ربما كانت الحياة السياسية ميدانًا للمبادئ والقيم، أما هنا، فهي أقرب إلى مسرحية هزلية، يتقمص فيها الفاعلون أدوارهم بكل وقاحة، والجمهور يصفق، لا إعجابًا، بل يأسًا.

يقال إن الخجل فضيلة، لكن لا وجود لهذه الكلمة في القاموس السياسي المحلي. الخوف؟ نعم، موجود، لكنه خوف مؤقت، مرتبط بتغير موازين القوى، أما الخجل، فهو ترف لا يليق بمن استبدل ملامح وجهه بجدار إسمنتي. هؤلاء لا تهزهم الفضيحة، بل يستغلونها كأداة تسويقية، فيخرج أحدهم بعد كل كارثة ليحاضر في الوطنية والنزاهة وكأنما لم تمس يداه المال العام.

في الدول التي تحترم شعوبها، الفضائح السياسية تدفع المسؤول إلى الاستقالة والاعتذار العلني، وربما إلى العيش في العزلة. أما هنا، فالفضيحة هي مجرد قفزة في المسار السياسي، كأنها نيشان يُعلَّق على الصدر، دليلًا على الحنكة والقدرة على “التصرف”. لا أحد يُحاسَب، لا أحد يخجل، وإن فعل، فإنه لا ينتمي إلى هذه الفصيلة، بل قد يكون مجرد كائنٍ ضلّ الطريق إلى السياسة المحلية.

لكن، لا بأس، فالزمن كفيلٌ بترتيب الأمور، وإن كان التاريخ يكرر نفسه، فإنه يفعل ذلك فقط ليرينا كيف يسقط كل من ظنّ أن الشعب غافل، وأن الفساد هو القاعدة التي لا تتغير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.