السياسي المغربي: فم كبير… ونتائج صغيرة!

محمد صابر
السياسة في المغرب ليست مجرد تدبير للشأن العام، بل هي مسرحية طويلة بلا نهاية، أبطالها يتغيرون، لكن السيناريو محفوظ، والديكور دائمًا متشابه: مكاتب مكيفة، خطب طويلة، وابتسامات مرسومة بحذر شديد. المواطن فيها مجرد كومبارس، يُستدعى كل خمس سنوات ليؤدي دور “الناخب”، ثم يُطلب منه الصمت إلى حين إشعار آخر.
في المغرب، السياسي لا يُولد، بل يُصنع. يُقصّ من قماش الخطابة، ويُخاط بخيوط المصالح، ويُزين بألوان الانتماء الحزبي، الذي يتغير حسب الفصول، وحسب مزاج “القيادة”. تجد الرجل اليوم في حزب يدافع عن الهوية، وغدًا في حزب يدافع عن الاستثمار، وبعد غد في حزب لا يدافع عن أي شيء إطلاقًا، لكنه موجود فقط لتأثيث المشهد.
أما الأحزاب، فحدث ولا حرج. هناك أحزاب تُشبه المقاهي، يجتمع فيها الزبناء للثرثرة، وأخرى تُشبه شركات التوظيف، يدخلها الشاب وهو غاضب، ويخرج منها نائبًا برلمانيًا ناعمًا. وهناك طبعًا أحزاب من نوع “صندوق البريد”، تصلها التعليمات من فوق، فتُرسل البلاغات من تحت، وكل شيء يتم بـ”التوافق الوطني” الذي لا يفهمه أحد غيرهم.
الحكومة؟ هي تلك الفرقة الموسيقية التي لا تتفق على اللحن، وكل وزير يعزف على مقام خاص به. وزير التربية يشتكي من نقص الموارد، ووزير المالية يُطمئنه بابتسامة توحي بأن “الحل قادم”، لكنه لا يأتي. أما الوزير المنتدب، فهو عادةً لا يعلم لماذا تم انتدابه، لكنه سعيد بالمهمة ويمضي وقته في التفتيش عن موضوع يصلح لتصريح صحافي.
المعارضة؟ أحيانًا تكون أكثر تأييدًا من الحكومة نفسها. ترفع الصوت في البرلمان، وتخفضه في الكواليس، وتُعدّ البيانات النارية، ثم تُصدرها بالحبر البارد. وإذا سألت أحدهم: “أين كانت معارضتكم حين تم تمرير القرار؟”، أجابك: “كنا في لجنة، ندرس الموضوع، ونعمل بصمت!”… الصمت طبعًا لغة جديدة في النضال السياسي.
أما البرلمان، فهو قبة تجمع كل أنواع الفصاحة: هناك من يحسن الصراخ، وهناك من يحسن النوم، وهناك من لا يعرف لماذا جاء، لكنه يتقن التصفيق في اللحظات المناسبة. المواطن يتابع الجلسات وكأنه يشاهد مسلسلاً مكسيكيًا: نفس الحبكة، نفس الدموع، ونفس “البلوكاج” الدائم.
والجماعات المحلية؟ تلك قصة أخرى من قصص الرعب. رؤساء جماعات يعتبرون أنفسهم ملوكًا مصغّرين، يتصرفون في الأراضي، في الصفقات، في المصابيح العمومية وحتى في الهواء أحيانًا. بعضهم لا يفرق بين ميزانية الجماعة وجيبه الخاص، وإذا سألته عن المشاريع المتوقفة، نظر إليك بدهشة وقال: “المشكل في الساكنة، ما كيتعاونووش!”
ثم يأتي الموسم الانتخابي، وتتحول الأزقة إلى مهرجانات صغيرة، حيث تُوزع الابتسامات، وتُطبخ الوعود على نار هادئة. فجأة، يكتشف الحي المهمّش أنه موجود، وتتحول الحفر إلى وعد بالإصلاح، وتصبح البقالة مقرًا انتخابيًا، ويُستدعى الفقيه، والمقدم، وبائع النعناع، في مشهد أقرب إلى حفل زفاف منه إلى عملية ديمقراطية.
لكن، بعد الانتخابات، يعود كل شيء إلى مكانه: المواطن إلى صمته، المرشح إلى مقعده، والواقع إلى عبثه. ثم نبدأ من جديد: نشكي من الفساد، نلوم القدر، وننتظر “العهد القادم”، الذي لا يأتي أبدًا.
وفي هذا البلد العجيب، لا تسقط الحكومات بالفشل، بل تسقط بالتعديل. الوزير الفاشل يُقال دون محاسبة، ويُعوّض بوزير آخر “صديق للمسؤولين الحقيقيين”، ثم نعيد الكرة، كأننا لا نتعلم. أما الأحزاب التي خذلت ناخبيها، فتعود لتترشح بكل فخر، وتُطالب بمنحها “فرصة ثانية” لعدم فعل أي شيء.
السياسة في المغرب لا تُحكم بقواعد، بل بحيل. من لا يُجيد المناورة، يُقصى. ومن لا يملك علاقات، يبقى هاويًا. أما من جمع قليلاً من الخطابة وكثيرًا من العلاقات أو حتى وزع فلوس عاشوراء على طينة من الناخبين، فمكانه مضمون، ولو لم يفهم شيئًا في الاقتصاد، أو الصحة، أو حتى اللغة العربية.
ومع ذلك، لا يزال بعضنا يُؤمن بالتغيير. لا نعلم إن كان إيمانًا حقيقياً، أم مجرد إنكار للواقع. نكتب، نحلل، نحتج، ثم نعود لنشارك في الانتخابات. لأننا ببساطة… نحب أن نصدق أن الفجر ممكن، حتى ولو كنا عالقين في منتصف الليل السياسي.
والمفارقة، أننا شعبٌ يُتقن السياسة أكثر من السياسيين أنفسهم. نعرف من ينهب، ومن يناور، ومن يتلون، لكننا نضحك ونقول: “آش غانديرو؟ هادشي عندو ربّو”. وكأن الله وحده مسؤول عن تقاعسنا، بينما نحن ننتخب، ونصفق، ونصمت…
أما نحن، فنكتب، لا لنُغيِّر العالم فورًا، بل لنخفف عن أنفسنا وطأة العبث.
نكتب لنظل واقفين وسط العاصفة، نكتب كي لا ننسى أن لنا صوتًا، وأن العبث، وإن طال، لا يمكن أن يتحول إلى قدر.
نكتب لنحفر في جدار الصمت نافذة، صغيرة ربما، لكنها تسمح بدخول النور.
وكم من ليل ثقيلٍ حسبناه لا ينقضي، فإذا بشمس الحقيقة تشرق من حيث لا نحتسب.