مجتمع

الصحافة بين الشرف والابتزاز: ولي عودة إلى الموضوع… إذا وجدت ما أبرر به عودتي!

ضربة قلم

الصحافة، في جوهرها، مهنة الحقيقة، مهنة البحث عن المعلومة وتقديمها للناس بمهنية ونزاهة، وهي بذلك ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمانة والشرف. الصحفي الجاد يعيش شريفًا ويرحل كذلك، حتى وإن كان يمر جنب الحائط، لأن جوهر عمله لا يتغير وفق الأهواء أو المصالح الضيقة. لكن، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، دخلت على الميدان الصحفي فئات جديدة لا تمت بصلة إلى أخلاقيات المهنة ولا إلى أسسها المهنية، مما أدى إلى تشويه صورة الإعلام في كثير من البلدان، لا سيما في الدول المتخلفة.

طفرة وسائل التواصل الاجتماعي: كيف انقلبت الموازين؟

في الماضي، كان الوصول إلى مهنة الصحافة يتطلب مؤهلات، سواء من حيث التكوين الأكاديمي أو من خلال التجربة العملية داخل المؤسسات الإعلامية. كان الصحفي يخضع لتدريبات مهنية، ويتعلم أصول التحرير، ويكتسب مهارات البحث عن المعلومات والتأكد من صحتها. غير أن الطفرة الرقمية أتاحت لأي شخص يحمل هاتفًا محمولًا وميكروفونًا أن يدّعي أنه “صحفي”، حتى لو لم يكتب يومًا مقالة واحدة، ولم يجرِ حوارًا محترمًا، ولم يفهم الفرق بين الخبر والإشاعة.

وهكذا، وجدنا أن البعض ممن كانوا يعملون في مهن لا علاقة لها بالإعلام، مثل تلميع الأحذية أو بيع الأقراص المدمجة أو ممارسة أنشطة هامشية، تحولوا بقدرة قادر إلى “صحفيين” بين ليلة وضحاها. لم يعودوا بحاجة إلى شهادات أو خبرة، بل فقط إلى صفحة فيسبوك، أو قناة يوتيوب، أو حساب على تيك توك، ليبدأوا في بث محتوى يفتقر إلى الحد الأدنى من المهنية.

من الصحافة إلى الابتزاز: حين تتحول المعلومة إلى سلاح

إن انتشار هذه الفئات الجديدة أدى إلى ظهور شكل جديد من الصحافة، أو بالأحرى من “الصحافة الموازية”، التي لا تعتمد على التحقيق والتدقيق، بل على “التصيد” و”الاصطياد”، حيث يبحث هؤلاء المتطفلون عن أي معلومة -حتى لو كانت سطحية أو قديمة- ويحولونها إلى ورقة ضغط وابتزاز.

بدأ هؤلاء الدخلاء باستغلال حاجة الناس إلى الشهرة أو خوفهم من الفضيحة، فصاروا يعتمدون على تكتيك معروف: “سنعود إلى الموضوع”، وهي عبارة تحمل تهديدًا مبطنًا للضحية المستهدفة. حين يسمعها المعني بالأمر، يدرك فورًا أن اسمه قد يكون على لسان هؤلاء مرة أخرى في فيديو آخر، فيشعر بالخوف، وقد يقرر تقديم المال طمعًا في إسكات هذا “الصحفي الزائف”.

لكن المفارقة الكبرى هي أن المبتز لا يعود إلى الموضوع، ليس لأنه حصل على المال، ولكن لأنه لم يجد شيئًا جديدًا يمكن أن يبرر به العودة إليه. وهنا تتجلى المفارقة العجيبة: فالابتزاز القائم على “التهديد بالكلام” قد ينجح أحيانًا، لكنه يصبح مجرد لعبة مكشوفة إذا لم يستطع صاحبه دعم مزاعمه بمعلومات جديدة.

الصحافة الحقيقية مقابل “إعلام النصب

في ظل هذه الفوضى، يصبح التحدي الحقيقي أمام الرأي العام هو التمييز بين الصحافة الحقيقية و”إعلام النصب”. فالصحفي المحترف لا يهدد ولا يبتز، بل ينقل الحقيقة كما هي، دون تحوير أو توظيف لمصلحته الشخصية. أما هؤلاء المتطفلون، فقد جعلوا من “الكلام” تجارة، ومن “المعلومات المشوشة” وسيلة للضغط والابتزاز.

إن خطر هؤلاء لا يكمن فقط في تشويه صورة الصحافة، بل أيضًا في خلق حالة من عدم الثقة لدى الجمهور. فحين يكثر الدجالون في ميدان الإعلام، يفقد الناس الثقة في الجميع، ولا يعودون قادرين على التمييز بين الصحفي المحترف والمتطفل. وهذا ما يجعل بعض الصحفيين الحقيقيين يعانون، لأنهم يجدون أنفسهم في نفس القارب مع من لا يستحقون حتى لقب “إعلامي”.

خاتمة: بين الأخلاق والفساد الإعلامي

إن الصحفي الذي يمارس مهنته بضمير، سيظل شريفًا حتى في أصعب الظروف. قد لا يحقق ثروة، وقد لا يصبح نجمًا في مواقع التواصل، لكنه سيحظى بالاحترام، وسيترك أثرًا نظيفًا خلفه. أما أولئك الذين جعلوا من الإعلام وسيلة للكسب غير المشروع، فإنهم قد يربحون مؤقتًا، لكنهم حتمًا سيسقطون في فخ أكاذيبهم، لأن الحقيقة، مهما تأخر ظهورها، تنتصر دائمًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.