الصحفي الجاد… المنبوذ في زمن الرداءة والانتهازية

محمد صابر
بعد تجربة مريرة وطويلة جدًا، أدركنا، عن قناعة راسخة لا يشوبها شك، أن الصحفي الجاد والمستقل هو شخص غير مرغوب فيه في كثير من الأوساط، بل يُنظر إليه كعنصر مشاكس ومزعج، لأنه ببساطة يزعج النظام السائد، يحرج المسؤولين، ويكشف المستور. هذا الواقع المرّ لا يتعلق فقط بتجربة شخصية أو بحالة فردية معزولة، بل هو انعكاس لبنية ثقافية وسياسية ترفض النقد البناء، وتُجيد صناعة الأصنام الإعلامية من ورق، فقط لأنها تُجيد المديح أو تعرف من أين تُؤكل الكتف.
الصحفي الجاد، بمقاييس الضمير المهني، هو من يرفض الاصطفاف الأعمى، ولا يقبل أن يكون صدى لبيانات رسمية أو أداة في يد السلطة، بل يُسائل، يحقق، ينقب، يربك السكون، ويكتب بقلمه لا بقلم غيره. لكن في البيئات التي لا تحب الحقيقة، تصبح هذه الصفات جريمة غير معلنة، ويُعتبر حاملها مشروع متاعب، يُهمش ويُقصى، وقد يُحارب علنًا أو يُحاصر في الخفاء، وتُغلق في وجهه الأبواب دون تبرير واضح.
ففي الدول التي تفتح صدرها للانتهازيين وتُطبطب على أكتافهم، حيث تُمنح المنابر والامتيازات لأولئك الذين يجيدون التملق، ويصنعون مجدهم من عرق زملائهم الحقيقيين، يصبح الصحفي الصادق عبئًا ثقيلاً، يُنظر إليه بريبة، بل يُساء فهمه عمدًا. تُنتزع منه فرص الاشتغال، ويُستبعد من التغطيات، وقد يُحرم حتى من أبسط الحقوق المهنية. أما المنابر، فتكاد لا تقبل صوته، لأنها تبحث عمن يقول لها ما تريد سماعه، لا ما تحتاج إلى معرفته.
هكذا وجدنا أنفسنا نعيش في مشهد عبثي، حيث تُكافأ الرداءة وتُهمش الكفاءة، وتُبنى الشهرة على الضجيج لا على الجودة. فالعديد ممن تصدّروا الواجهات الإعلامية، ليسوا من أصحاب الفكر أو التجربة، بل من محترفي التلون والتسلق، ممن يتقنون فنون الانبطاح أكثر من فنون التحرير. في المقابل، الصحفيون الجادون، الذين قضوا سنوات في التكوين الذاتي والتجربة الميدانية، يُرمون في الظل، ويُدفع بهم إلى التقاعد القسري أو الهجرة أو الانزواء في صمت.
والأدهى من كل ذلك، أن هذا الوضع لا يولّد فقط الإحباط، بل يُسهم في تقويض مصداقية العمل الصحفي ككل. إذ كيف ننتظر من المواطنين احترام مهنة يُهان فيها أصحابها الحقيقيون؟ كيف نطلب من الجمهور الوثوق بالإعلام، في وقت بات فيه التهريج يغطي على التحليل، والسطحية تتغلب على العمق، والإشاعة تنتصر على التحقيق؟
إن ما نعيشه اليوم هو انحدار في المفاهيم، حيث لم تعد المهنية معيارًا، ولا الصدق قيمة، بل صار الولاء هو البوصلة الوحيدة التي تقرر من يستحق الصعود، ومن عليه أن يظل قابعا في أسفل السلم. وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد ليس فقط مستقبل الصحافة، بل مستقبل الوعي الجماعي برمته، لأن الإعلام حين يفرّغ من رسالته، يتحول إلى أداة تزييف بدل أن يكون وسيلة تنوير.
لقد اكتشفنا، متأخرين ربما، أن الصحافة الصادقة لا تنمو في بيئة تكره الحقيقة، ولا تُزهر في تربة تحب البهرجة. وأن الجدية والمهنية قد تكونا عبئًا في زمن يُكافأ فيه من يبيع رأيه كما تُباع السلع في الأسواق. ورغم الألم، فإن هذا الوعي، وإن جاء بعد سنين من الخيبات والتجارب المرة، هو مكسب ثمين، لأنه يحررنا من الوهم، ويمنحنا على الأقل شرف مقاومة التيار بدل الانصياع له.
فهل ما زال هناك متّسع للأمل؟ وهل يمكن أن تستعيد الصحافة دورها كمهنة نبيلة لا كبوق رخيص؟ لعل الجواب يتوقف على مدى استعداد المجتمعات لإعادة الاعتبار للقيم، بدل الأشخاص، وللأفكار، بدل المصالح. أما نحن، فسنظل نكتب ما نراه صوابًا، ولو من خارج الصفوف، لأن الصمت في زمن الكذب خيانة، والسكوت عن التزييف نوع من التواطؤ.
Good https://is.gd/N1ikS2
Very good https://is.gd/N1ikS2
Very good https://is.gd/N1ikS2
Very good https://is.gd/N1ikS2