الصحفي الحزبي والصحفي الحر… بين الولاء والانتماء، وبين الضمير والالتزام

ضربة قلم
في مشهد إعلامي عربي تغلب عليه الضبابية والتداخل بين الأدوار، يبرز سؤال جوهري: ما الفرق بين الصحفي الحزبي والصحفي الحر أو المستقل؟ ليس الأمر ترفاً فكرياً أو تمييزاً نظرياً، بل هو نقاش يمس جوهر المهنة وأخلاقياتها، ويعكس حدود العلاقة بين الإعلام والسياسة، بين من يكتب بقلمه ومن يُملى عليه ما يكتب.
الصحفي الحزبي: قلم بلون سياسي
الصحفي الحزبي هو ذلك الذي ينتمي صراحة إلى حزب سياسي، يعمل في منابره الإعلامية أو يناصر خطه من داخل مؤسسات إعلامية أخرى. الانتماء هنا ليس فقط بطاقة عضوية، بل هو التزام فكري وإيديولوجي، وأحياناً التزام تنظيمي يفرض عليه اصطفافاً دائماً مع مواقف الحزب، حتى لو ناقضت الحقيقة أو مصلحة الرأي العام.
هذا النوع من الصحفيين لا يرى العالم إلا من زاوية حزبه. ينتقي الأخبار، ويصوغ العناوين، ويؤطر الأحداث بما يخدم أجندة سياسية واضحة. في أوقات الحملة الانتخابية مثلاً، يتحول إلى “مقاتل إعلامي” في صف حزبه، وفي فترات السلم السياسي، يشتغل على “تلميع الصورة” أو مهاجمة الخصوم.
الصحفي الحزبي قد يكون مثقفاً وذكياً ومطلعاً، لكن انتماءه يحد من حريته، ويجعل ضميره المهني أسيراً لتوجه تنظيمي لا يتسع دائماً للحقيقة. وحتى عندما يكون صادقاً، يُنظر إليه بريبة: هل يقول ما يعتقده فعلاً؟ أم ما يُطلب منه قوله؟
الصحفي الحر: استقلالية بحجم المعركة
أما الصحفي الحر أو المستقل، فهو ليس بالضرورة “خارج السياسة”، لكنه لا ينتمي تنظيمياً لأي حزب إلا للوطن، ولا يخضع لقيوده. هو حر في انحيازاته، لكنه لا يبيع انحيازه، ولا يسمح لأن يتحول قلمه إلى ملحق ناطق باسم جهة ما.
هذا الصحفي قد يمدح حزباً أو ينتقده، لكنه يفعل ذلك انطلاقاً من رؤيته الخاصة، ومن التزامه بأخلاقيات المهنة لا من تعليمات فوقية. لا يكتب لينافق، بل ليكشف. لا يلاحق “رضا الزعيم”، بل “رضا الحقيقة”.
أن تكون صحفياً حراً في بيئة متخمة بالتجاذبات الحزبية يعني أن تختار الطريق الأصعب: أن تُغضب الجميع في سبيل الصدق، أن تواجه ضغوطاً مالية وسياسية ومجتمعية، وأن تدفع الثمن وحدك، لأن لا جهة تحميك سوى جمهور يؤمن بك ويثق فيك.
الصحفي الحر هو من يطرح الأسئلة التي يخشاها الآخرون، ويكتب عن القضايا التي يتجنبها الصحفيون المنتمون. هو العين التي لا تغمض، والضمير الذي لا يسكت، حتى لو كلفه ذلك العزلة أو الإقصاء أو حتى السجن.
حين تتقاطع الحدود
لا بد من القول إن الفارق ليس دائماً حاداً. فبعض الصحفيين “الحزبيين” ينجحون أحياناً في الحفاظ على حد أدنى من المهنية، كما أن بعض “المستقلين” يسقطون في فخ الولاءات الخفية، سواء عبر تمويل خفي أو مصالح مرتبطة بأصحاب القرار.
لكن المعيار الجوهري يظل هو الاستقلالية التحريرية، والقدرة على نقد الذات، ورفض الخضوع لإملاءات مسبقة. في النهاية، الصحفي الحقيقي، سواء كان في مؤسسة حزبية أو مستقلة، هو ذاك الذي يضع مصلحة الحقيقة فوق مصلحة الحزب، ويجعل من الضمير المهني بوصلته الوحيدة.
كلمة أخيرة
في زمن تشظي المواقف وتهافت كثير من المنابر، لم يعد السؤال فقط: من يكتب؟ بل: لمصلحة من يكتب؟ ولصالح من يصمت؟
الصحافة ليست مهنة الحياد السلبي، بل مهنة الشجاعة. والصحفي الحر هو آخر قلاع المقاومة في وجه الرداءة، لأن الحرية لا تورث… بل تُنتزع.





https://shorturl.fm/3LIOB
https://shorturl.fm/aaPFS