مجتمع

“الصريح المستقل”: حين تآمرت المخابرات على مولود صحفي بقبلة دافئة ومقالة مسمومة

محمد صابر

في صيف 1988، كنتُ أشبه بصبي يتسلل إلى حلبة الكبار، لا يملك من العدّة سوى رغبة مشتعلة وحلم عنيد، حلم إصدار جريدة وطنية تحمل اسما بدا لي حينها كطلقة مدوية: “الصريح المستقل”. كانت البداية متواضعة، لا مكاتب ولا تجهيزات ولا فريق تحرير كامل، بل مجرد طموح خام ودفتر مسودات وبعض الزملاء الذين تقاسموا معي المغامرة، قبل أن يخذلهم التعب أو العمر، أو يأخذهم الموت إلى مقاعد المتفرجين.

كنا نلتقي يوميًا بالرباط، نقتات من الحماسة ونرتب مواضيع العدد الأول كما يرتب المرء طاولة العشاء في ليلة عيد. كنت أتحول حسب الحاجة من رئيس تحرير إلى سكرتير، إلى موزع المهام، بل حتى إلى عامل طباعة أحيانًا. كنا نحفر في الجليد بأظافرنا، نكتب، نصحح، نعيد الكتابة، ونسحب من “ثلاجة” الصحافة كل ما هو قابل للعيش تحت حرارة اللحظة.

وفي غمرة الحماسة، لم أكن أستوعب تمامًا أنني أخوض مغامرة غير محسوبة وسط حقل ألغام سياسي لم يكن يرحم. صار إسمي يتردد، وصار ظلّي مراقبًا في الأزقة والمقاهي، بل وحتى داخل عربات القطار. أتذكر كيف تم استدراجي بتقنية بالغة الحنكة، حين ظهرت في حياتي فتاة جميلة، أنيقة، لا ينقصها الذكاء ولا الجرأة، دخلت المقصورة التي كنت أجلس فيها، وافتعلت حوارًا عميقًا بلا مقدمات. علمت لاحقًا أنها لم تكن سوى أداة من أدوات “الاختبار”، مهمتها جسّ نبض المشروع الجديد، وفحص نوايا صاحبه.

ما زلت أذكر جيدا تلك الليلة في فندق “دارنا”، حين أخرجت مذكرتها الصغيرة، وأرادت أن تمنحني “هدية” على طريقتها: مقالة سياسية جاهزة، بصياغة حادة، بلغة تصلح لتأشيرة مفتوحة نحو زنزانة مظلمة. استمعت إليها حتى النهاية، ثم قلت لها ببرود الواعي المصدوم: هذا النص لا يصلح لمولودنا. لم أكن بطلاً، بل كنت صحفيا بدأ للتو يدرك أن لعبة الحروف ليست دائمًا نزيهة، وأن بعض المحابر تكتب بالحبر الخفي للأجهزة.

لكن الجريدة صدرت، صدرت رغم العوائق والهمسات والتحذيرات، وصنعنا بها ضجة. كتبت عنها وكالة المغرب العربي للأنباء، وتناقلتها وسائل إعلام دولية، بل وحتى الصحف الوطنية التي قلّما تحتفي بالوافدين الجدد، خصصت لها مساحة. كانت المواد غنية، التبويبات متنوعة، وتحليل سياسي واحد من الراحل إدريس العلمي اختزل مشهدا دوليًا بالكامل في مقاله عن ريغن وغورباتشوف، صدقت تنبؤاته لاحقًا بدقة لافتة.

من طرائف تلك الأيام، رسالة وصلت من وجدة، كتبها رجل قدم نفسه كمقدم سابق أوقفه العامل، وضمنها اتهامات ثقيلة، بل وحتى نسخة من بطاقته الوطنية. آنذاك، لم تكن لدينا الوسائل لتقصي حقيقة المعلومة ولا للتحقق من مصداقية الوثائق، وكان أي خطأ يمكن أن يتحول إلى كارثة قانونية أو سياسية.

تلك التجربة كانت قصيرة لكنها كثيفة، كشهابٍ مر في سماء صحف المغرب. لم أواصل إصدار “الصريح المستقل”، ليس لأنه مشروع فاشل، بل لأن ظروفه كانت أعقد من قدراتي حينها. كانت البلاد لا تزال ترزح تحت إرث سياسي ثقيل، والحق في التعبير كان ترفًا يتطلب شروطًا قاسية، ليس أوّلها غطاء سياسي ولا آخرها ولاء غير مشروط.

لكن التجربة لم تنتهِ هناك. فقد كانت مدرسة قاسية، لكنها فتحت لي بابًا لجريدة جهوية، ستصمد لاحقًا لأكثر من ثلاثة عقود، وتشهد على التحول الكبير الذي عاشته البلاد. وربما أهم ما تعلمته من “الصريح المستقل” ليس كيف تدير جريدة، بل كيف تصنع موقفًا دون أن تُكسر، وكيف تكون صحفيًا دون أن تصبح أداة، وكيف تحب هذا الوطن حتى عندما يُشكك في نيتك أو يُرسل إليك من “يختبرك” بالعناق والمقالة المُفخخة.

ذاك الصيف ما زال يرافقني، لا كذكرى رومانسية، بل كفصل من فصول النضج، حين تكتشف أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحقيقة -مهما بدت جميلة- تثير الذعر أحيانًا أكثر من الكذب المريح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.