الصندوق العجيب للضمان الاجتماعي: بين الأرقام الذهبية والواقع المرير

ضربة قلم
حينما يتحدث المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن نجاح باهر في معالجة الملفات وتقليص آجال الأداء، يبدو الأمر وكأننا دخلنا إلى عالم وردي، حيث يحصل المواطن على حقوقه بسرعة ودون عراقيل، بل وربما مع ابتسامة عريضة من موظف راضٍ عن عمله! لكن قبل أن نفتح زجاجة العصير احتفالًا بهذه الإنجازات، لنتوقف قليلًا عند بعض الأرقام والتصريحات التي تحتاج إلى “تفكيك وتركيب”.
مكاتب القرب: القرب من من؟
يصرح المدير العام بأن 95% من ملفات التعويض تمر عبر “مكاتب القرب”، وهو ما ساهم في تقليص طوابير الانتظار أمام وكالات الصندوق. حسنًا، لنطرح السؤال البسيط: هل أصبح المواطن يحصل على تعويضاته بسهولة تامة؟ أم أن هذه “المكاتب” مجرد وسطاء يضيفون طبقة أخرى من التعقيد، حيث يتعامل المواطن مع شخص غير مسؤول مباشرة أمام الصندوق، وفي بعض الأحيان، يجد نفسه أمام موظف يرسل ملفه إلى “عالم المجهول” دون أي ضمان بأنه سيصل فعليًا إلى وجهته؟
من جهة أخرى، لو افترضنا أن هذه المكاتب فعالة كما يقول المدير، لماذا ما زالت شكاوى المواطنين حول تأخر صرف التعويضات حاضرة بقوة؟ ولماذا يجد البعض أنفسهم مطالبين بإعادة تقديم الوثائق مرارًا وكأنهم في متاهة بيروقراطية لا نهاية لها؟
من 7.8 مليون إلى 24.7 مليون مستفيد: توسع أم فوضى؟
قفزة المستفيدين من 7.8 مليون إلى 24.7 مليون خلال أربع سنوات تبدو وكأننا اكتشفنا وصفة سحرية لتغطية صحية شاملة. لكن هل واكب هذا التوسع تحسين حقيقي في جودة الخدمات؟ أم أننا أمام “انتفاخ رقمي” يخفي وراءه مشاكل في التمويل والتدبير؟
ارتفاع عدد الملفات اليومية من 22 ألفًا إلى 110 آلاف ليس مجرد مؤشر على نجاح المنظومة، بل هو أيضًا اختبار حقيقي لقدرة الصندوق على الاستمرار في الأداء دون أن ينهار تحت وطأة هذا العبء الهائل. فالسؤال هنا: هل الزيادة في عدد المستفيدين تعني زيادة متناسبة في الموارد البشرية والتجهيزات، أم أن نفس “الجيش البيروقراطي” يحاول تغطية هذا التضخم بوسائل محدودة؟
تسعة أيام فقط لصرف التعويض؟ حلم أم واقع؟
يدعي الصندوق أنه قلص مدة التعويض من 12.4 يومًا إلى 9 أيام، وهو أمر جميل لو كان يعكس الواقع فعلاً. لكن لنكن صرحاء، هل كل المواطنين يحصلون على تعويضاتهم في هذا الأجل؟ أم أن هناك “تعويضات محظوظة” تصرف بسرعة، بينما ملفات أخرى تتجول “وتخمر” بين المكاتب، كل واحد يرسلها للآخر تحت ذريعة “نقص وثيقة” أو “خلل في النظام”؟
ثم ماذا عن أولئك الذين يتعرضون لمفاجآت غير سارة عندما يكتشفون أن ملفهم مرفوض بسبب خطأ تقني لا ذنب لهم فيه؟ وكم من مواطن انتظر تعويضه حتى يئس، فقرر ببساطة التنازل عنه بدلاً من إضاعة عمره في المراجعات والاتصالات غير المجدية؟
التغطية الصحية للجميع… بشرط الدفع!
يبدو تصريح المدير العام عن “ضمان التغطية الصحية للجميع” مشروطًا بحتمية أداء المساهمات، مما يعني أن من لا يدفع لا يستفيد. جميل! لكن ماذا عن الآلاف ممن يجدون أنفسهم مجبرين على أداء مساهمات رغم أنهم عاطلون عن العمل أو في وضعية هشة؟ وهل توجد آلية واضحة لضمان ألا يتحول هذا الشرط إلى وسيلة لإقصاء من هم في أمسّ الحاجة للرعاية الصحية؟
أما حديثه عن أن الدولة تتكفل بدفع الاشتراكات عن الفئات غير القادرة، فهو تصريح يحتاج إلى تدقيق أكبر. فمن يحدد أن هذا المواطن “غير قادر”؟ وما هي آليات ضبط هذه الفئة؟ وهل تكفل الدولة بالمساهمات يضمن فعلاً نفس مستوى الخدمة أم أن “الفقراء” سيحصلون على رعاية صحية من الدرجة الثانية؟
الصندوق العجيب: أرقام زاهية وواقع قاتم
باختصار، نحن أمام مؤسسة تحب “تزيين الصورة” لكنها تترك التفاصيل المزعجة في الظل. قد تكون هناك تحسينات فعلية، لكن الأكيد أن الطريق لا يزال طويلاً أمام المواطن البسيط ليحصل على حقوقه دون المرور عبر جحيم الانتظار والتبرير والوثائق التي لا تنتهي. فإلى أن تتحول هذه الأرقام الوردية إلى واقع ملموس، سيظل الصندوق بالنسبة للكثيرين “صندوق العجائب” الذي يوزع الوعود أكثر مما يوزع التعويضات!