مجتمع

الطب بين رسالة الإنسانية وتجّار الصحة: عندما يتحوّل “أبو قراط” إلى تاجر دواء

ضربة قلم

في المغرب، كما في كل دول العالم، الطب ليس مجرد مهنة، بل هو رسالة، بلاغ إنساني قبل أن يكون مصدراً للعيش. غير أن هذه القاعدة الذهبية تصطدم بواقع يفرز نوعين من الأطباء: فريق ما زال يحافظ على قسم أبي قراط ويرى في المريض إنساناً قبل أن يكون زبوناً، وفريق آخر يمسك بالمشرط بيد، وبالآلة الحاسبة في اليد الأخرى، يزن أرباحه قبل أن يزن حالة المريض.

أطباء المبدأ.. حيث الإنسانية قبل المال

إذا كنت محظوظاً في المغرب، فقد تقع بين يدي طبيب لا يزال يرى في مهنته رسالة سامية. هؤلاء الأطباء يحددون أتعاب التشخيص بمبالغ في المتناول، ويفضّلون وصف الأدوية الأساسية غير المكلفة بدل ملء الورقة بوصفات باهظة الثمن تحمل أسماء ماركات معروفة في سوق الأدوية. هؤلاء الأطباء لا يصفون التحاليل والأشعة إلا إذا كانت ضرورية، ولا يجعلون من المريض فأر تجارب بين المختبرات والصيدليات.

هؤلاء يمارسون مهنتهم بقلب، يطرحون أسئلة عن الحالة النفسية والاجتماعية للمريض، يفكرون في دخله قبل أن يكتبوا له وصفة علاجية قد تكلفه قوت يومه. لكن للأسف، هذا النوع من الأطباء أصبح عملة نادرة، وتراهم يُنظر إليهم كـ”أغبياء” في سوق المهنة، لأنهم لا يستغلون المرضى كما يفعل غيرهم.

أطباء “المنشار”.. منشار في التشخيص ومنشار في الوصفات

في المقابل، هناك نوع آخر من الأطباء، أولئك الذين يرون في المريض فرصة ذهبية لملء جيوبهم وجيوب مختبرات الأدوية. هؤلاء لا يكتفون بأتعاب تشخيص مرتفعة فقط، بل لديهم أجندة اقتصادية واضحة:

  • وصف أدوية باهظة الثمن رغم وجود بدائل جنيسة أقل تكلفة.
  • فرض تحاليل وفحوصات لا حاجة لها فقط لإرسال المرضى إلى مختبرات يتعاملون معها بنظام العمولة.
  • الاشتراك في “حلقات مافيا الدواء”، حيث يوصي الأطباء بوصفات لأدوية بعينها مقابل عمولات من شركات الأدوية.

هؤلاء الأطباء لا يعترفون بالأخلاقيات المهنية، بل ينظرون إلى المرضى كما ينظر الجزار إلى قطيع الماشية قبل العيد: “كيف أستخلص أقصى ربح من كل واحد؟”. والنتيجة أن المواطن المغربي يجد نفسه بين مطرقة المرض وسندان التكلفة، مضطراً للاستدانة أو التخلي عن العلاج بسبب جشع بعض الأطباء.

“مافيا الدواء”.. عندما يصبح المرض استثماراً

المشكلة لا تقف فقط عند بعض الأطباء الجشعين، بل تمتد إلى شبكة معقدة تشمل المختبرات والصيدليات وحتى بعض الموزعين. هناك نظام غير معلن، لكنه معروف بين الأطباء والصيادلة: كلما زادت وصفاتك من دواء معين، زادت أرباحك من المختبر الذي يُنتجه.

  • شركات الأدوية تستثمر في هؤلاء الأطباء عبر الهدايا والسفريات والمؤتمرات العلمية التي ليست سوى غطاء لشراء ولائهم.
  • بعض الأطباء يكتبون أسماء أدوية محددة في وصفاتهم لأنهم ببساطة يحصلون على نسبة من الأرباح عند بيعها.
  • حتى بعض الصيدليات تلعب دور الوسيط، حيث توجّه المرضى نحو أدوية محددة بذريعة أنها “الأفضل”، بينما الهدف الحقيقي هو بيع المنتجات التي تحقق أعلى هامش ربح.

هذه المنظومة تجعل المريض آخر من يُفكر فيه، وكأن العلاج لم يعد يتعلق بالشفاء، بل بصفقة بين الأطباء وشركات الأدوية، والخاسر الأكبر دائماً هو المواطن البسيط.

قسم أبقراط.. هل أصبح مجرد كلمات جوفاء؟

يبدأ أي طبيب مساره المهني بأداء قسم أبقراط، الذي يلزمه بأداء مهمته بأمانة ونزاهة، ووضع صحة المرضى فوق أي اعتبار. لكن في المغرب، يبدو أن القسم قد تحوّل إلى مجرد فقرة تُقال في حفل التخرج، ثم تُنسى بمجرد أن يُفتح العيادة وتبدأ لعبة المال.

فأين نحن من أبقراط؟

  • هل يقبل أبقراط أن يتحوّل الطبيب إلى بائع يروّج لأدوية بعينها مقابل عمولات؟
  • هل يقبل أبقراط أن يصبح المريض زبوناً لا أكثر، يُدفع به نحو المختبرات والصيدليات كما تُقاد النعاج نحو الذبح؟
  • هل يقبل أبقراط أن تكون مهنة الطب اليوم مرادفة للجشع، وأن تصبح زيارة الطبيب سبباً في تفاقم الأزمات المالية للعائلات المغربية؟

الحل؟ ضبط القطاع ومعاقبة المستغلين

لا يمكن الحديث عن حل جذري لهذه المشكلة دون تدخل الجهات المسؤولة لتنظيم القطاع الصحي ومعاقبة المتلاعبين. هناك خطوات ضرورية لإنقاذ مهنة الطب من السقوط في مستنقع الجشع، منها:

  • إجبار الأطباء على وصف الأدوية الجنيسة متى توفرت، وتحديد سقف لهوامش الربح في الأدوية باهظة الثمن.
  • تشديد المراقبة على المختبرات والعلاقات المشبوهة مع الأطباء، وإلزامهم بالشفافية في تعاملاتهم.
  • فرض عقوبات تأديبية على الأطباء الذين يُثبت تورطهم في أي تلاعب يضر بالمريض ماليًا أو صحيًا.
  • تحسين الخدمات الصحية العمومية لتقليل اعتماد المواطنين على القطاع الخاص، الذي أصبح في كثير من الأحيان مجرد سوق لاستغلال حاجات الناس.

الخاتمة: هل نريد أطباء أم تُجار صحة؟

الفرق بين الطبيب الحقيقي والطبيب التاجر واضح: الأول يُعالج المرض، والثاني يستثمر فيه. المواطن المغربي لا يبحث عن طبيب “يرحمه”، لكنه على الأقل يريد طبيبًا لا يذبحه بالفواتير والمبالغ الخيالية. فما فائدة أن يشفى الجسد إذا كان جيب المريض سيموت بسبب تكاليف العلاج؟

الطب رسالة قبل أن يكون مهنة، والمرضى بشر قبل أن يكونوا زبائن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.