مجتمع

الطيّبون هم الأوكسجين الخفي… الذين نتنفس بهم الحياة

م-ص

في زمنٍ يضيق فيه الهواء، ويغدو التنفس فعلاً مجهدًا لا يمنح الحياة بل يمدّها بحبس مؤجل، لا يعود الأوكسجين مجرد عنصر كيميائي تُدَرّسه كتب العلوم، بل يتحوّل إلى وجوه وأرواح، إلى أصوات ناعمة تهمس لنا أننا ما زلنا على قيد الإنسانية، إلى حضور الطيبين والطيبات الذين، وإن قلّوا، فإنهم يملأون الفراغ الفادح بما لا تفعله المدن المكتظة ولا الخطابات الرنانة.

الطيّبون والطيّبات… أولئك الذين لا يُدوّنون أسماءهم في كتب التاريخ، لكنهم يسكنون تفاصيل حياتنا كبطولات صامتة. هم الذين يُعدّون فنجان قهوة لا ليعرضوا كرمهم، بل لأنهم يعرفون أنك مرهق. هم الذين لا ينتظرون “شكرًا”، بل يبتسمون لأنهم رأوا البهجة في عينيك. هم الذين يشبهون الحب حين يتحرّر من الامتلاك ويتجلى في الرعاية، في الإنصات، في الإمساك بيدك وأنت على وشك السقوط دون أن يسألوك لماذا سقطت.

الحب، في تعريف هؤلاء الطيبين، ليس وعدًا أبدياً ولا قصائد تُتلى في العتمة، بل هو تفاصيل دقيقة: أن تُعدّ الغطاء على جسد من تحب في ليالٍ باردة دون أن يطلب. أن تملأ صحنًا بالماء للطيور، أو ترسل رسالة مطمئنة لمن اختفى يومين، فقط لأن قلبك استشعر الغياب.

الطيّبون لا يعرفون أنهم طيّبون. لا يقولون عن أنفسهم شيئًا، ولا يمشون في الأرض تفاخرًا. قد لا يتقنون الكلام المنمق، ولا يجيدون صناعة “الصورة”، لكنهم يُتقنون اللمسة التي تُرمّم، والكلمة التي تداوي، والنظرة التي تُضيء.

هم الحب حين يتجسّد. والحب حين يختصر العالم كلّه في “كيف حالك؟” تُقال بصدق. هم الأوكسجين الذي يجعل هذا العالم، رغم كل ضجيجه وقسوته، ممكنًا للعيش.

نحن لا نعيش فقط لأن القلب ينبض. بل نعيش لأن في حياتنا من يجعل هذا النبض ذا معنى. الطيبون هم من يمنحوننا سببًا لنواصل، لأنهم يشبهون الفجر حين لا يُعلن نفسه بالضوء فقط، بل برائحة الخبز، وهدير الشاي، وصوت أذان ناعم يقول: “الرحمة ما زالت هنا.”

وحين نختنق من الزيف، من الخداع، من اللؤم المغلّف بأناقة، نبحث عنهم كما يبحث الغريق عن سطح الماء. نبحث عن لمسة من دفء، عن كلمة دون مصلحة، عن ضحكة لا تخفي سكينًا في ظهرها. نبحث عن الأوكسجين الحقيقي الذي لا يُرى لكنه يُشعرنا أننا أحياء حقًا.

ولنقلها بصراحة، هذا العالم لا ينقذه الأقوياء ولا الأذكياء وحدهم، بل ينقذه هؤلاء الذين يتعففون عن الأذى، والذين يعرفون أن الصدق قد يكون ضعيفًا لكنه لا يُهزم. الطيبون، الذين لا يمتلكون سوى قلوبهم، هم من يمنحون للحياة شرفها، وللحب نبلَه، وللبشرية عذْرَها في أن تظل موجودة.

فلنحبّهم… ولنقل لهم: وجودكم بيننا ليس ترفًا، بل ضرورة. أنتم الأوكسجين، ولولاكم لاختنق هذا الكوكب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.