العصامي كيعرق، واللي غير سامع كتبورد!

ضربة قلم
آه، الإنسان العصامي! ذاك الكائن الغريب الذي قرر، بكل شجاعة، ألا ينتظر أحداً ليمنحه شهادة أو يُزكّيه في مجلسٍ ما، ولا أن يُقبل في “برنامج تدريبي” ممول من طرف “الشركاء”، ولا أن يقف في الطابور ينتظر “فرصته في الإدماج”. قرر أن يعتمد على ذاته، على ركبتيه إن لزم الأمر، أن يتعثر وينهض، أن يتلقى الصفعات من الحياة لا من الأساتذة الجامعيين، وأن يجعل من الفشل دليلاً نحو النجاة لا وصمة عار في السيرة الذاتية.
هذا الكائن العصامي لم يتخرج من جامعة باريس ولا هارفارد ولا حتى من معهد التكوين المهني بحي شعبي. بل تخرج من “جامعة المقهى”، و”كلية الزنقة”، ونال شهادة عليا في “فن الترويض الذاتي”، و”إدارة الأزمات المزمنة”، و”هندسة الحيلة والذكاء الاجتماعي”، وأتقن لغات متعددة: لغة الصمت حين يكون الكلام مضراً، ولغة الابتسامة حين يكون الغضب ترفاً، ولغة “آه… ماشي مشكل” حين لا يملك حلاً ولا حيلة.
وهذا الإنسان العصامي لا يُظهر علمه، لأنه ببساطة لم يتعلمه من أجل إبهار الآخرين. تعلمه لأنه احتاجه. احتاج أن يعرف كيف يقرأ عقد كراء، كيف يفهم شروط قرض، كيف يناقش فواتير الماء والكهرباء دون أن تُصاب أعصابه بالعطب، وكيف يميز بين من يريد مساعدته ومن يريد استغلاله. لا يلبس ربطات عنق ضيقة، ولا يجلس خلف مكاتب لامعة، لكنه حين يتحدث، تصمت المجالس. وحين ينصح، يصمت حتى الطبيب. لأنه يتحدث من جُرح، لا من كتاب.
لكن المشكلة ليست في هذا العصامي الصامت الحكيم… بل في ذاك الكائن الآخر، الذي “ما قراش ولكن غير سامع”. سمع أن فلانا قال. وسمع أن الشيخ الفلاني حذّر. وسمع أن فيديو على يوتيوب يشرح كل شيء عن أي شيء في خمس دقائق. لم يقرأ كتاباً، لكنه قرأ عناوين الأخبار على الفايسبوك. لم يدخل فصلاً دراسياً، لكنه دخل عشرات “الجروبات” وخرج منها عبقرياً من العيار الثقيل. وإذا ناقشته، فهو مستعد ليقنعك أن الأرض مسطحة، وأن الطب مؤامرة، وأن الاقتصاد مجرد خدعة، وأن أي مخالفة لقناعاته دليل على أنك أنت الجاهل.
هذا النوع خطر، لأن الجاهل الذي يدرك جهله أملُه في التعلم كبير، لكن الجاهل الذي يعتقد أنه عليمٌ فهو كارثة متنقلة. يوزع الفتاوى في التجمعات العائلية، يعطي دروساً في التربية وهو فاشل في تربية أنجاله، يتحدث عن السياسة وكأنه ابن الكواليس، وعن الطب وكأنه قضى خمسين سنة في الجراحة، وعن الدين وكأنه نزل توًّا من جبل النور. وإذا سألته: “من أين علمت ذلك؟”، يردّ بثقة مرعبة: “راني عارف، ماتقبحش معايا”.
هذا “السماعجي”، كما يمكن أن نسميه، هو مصيبة العصر. لأنه لا يتعلم، ولا يطور نفسه، ولا يشكك في قناعاته، لكنه في المقابل يقينُه في نفسه لا يتزحزح. يشك في العلماء، في الخبراء، في المختصين، لكن لا يشك أبداً في نفسه. وعندما يرى العصامي وقد وصل، يسخر منه. يقول: “آش دار كاع؟ غير دايز! راه هادشي كامل ما كاين فيه والو”. لأن في داخله ألم دفين، أن أحداً استطاع أن يصنع نفسه بنفسه، وهو لا يزال ينتظر من يصنعه.
في نهاية المطاف، قد لا يظهر العصامي كثيرًا، لانشغاله ببناء نفسه بعيدًا عن أعين الناس، بينما “السماعجي” حاضر في كل مكان، منشغلًا بتلميع صورته في أذهان الآخرين، بصخبٍ لا يسنده رصيد. يا للمفارقة! زمنٌ يُتَّهم فيه القارئ بالتعالي، ويُرفَع فيه من لا يقرأ لأنه “ابن الشعب” و”متواضع”. والأدهى من ذلك، أن هذا الأخير يقود الجموع إلى الهاوية، بأفكار جوفاء لا أصل لها، فيما العصامي يحاول بصمت جمع شتات ما خربه غيره.