مجتمع

العطالة الخفية: الشباب الحاصل على الشواهد العليا في مواجهة “سوق العمل العبثي”

بقلم: سمية بنسالم

في مقاهي المدن المغربية، لا سيما تلك القريبة من الجامعات والإدارات العمومية، يجلس آلاف الشباب بملامح متعبة وعيون تحمل بريقا خافتا من الأمل. في أيديهم شهادات عليا، بعضها من جامعات مغربية مرموقة، وبعضها الآخر من جامعات أوروبية أو كندية أو تركية. ومع ذلك، لا شيء يشفع لهم أمام ما يمكن تسميته دون مبالغة بـ”سوق العمل العبثي”، حيث القوانين لا تُطبق بعدل، والمعايير تُخترق بالواسطة، والفرص تُمنح بناءً على “المعارف” لا الكفاءات.

عطالة… لكن من نوع جديد

العطالة في المغرب لم تعد تعني مجرد الجلوس في البيت أو البحث العقيم عن وظيفة. لقد تطورت لتصبح “عطالة خفية”، يتقنها الجيل الجديد من حملة الشواهد العليا. تراهم يزاولون أعمالًا هامشية لا تمت بصلة لتخصصاتهم: خريج هندسة معمارية يعمل في محل لبيع الهواتف، مجاز في الفيزياء يقدم دروسا خصوصية لتلاميذ الإعدادي، ماستر في القانون يبيع القهوة في مقهى العائلة، ودكتور في علم الاجتماع يشتغل في مشروع مؤقت بإحدى الجمعيات.

هذه الفئة لا تظهر في أرقام البطالة الرسمية لأنها تعمل، ولكنها تعيش إحباطا مزدوجا: فهي من جهة تمارس عملا لا يتناسب مع مؤهلاتها، ومن جهة أخرى تدرك أن ما بذلته من سنوات دراسة وجهد لم يُثمر سوى عمل مؤقت لا يليق لا علميًا ولا اجتماعيا.

حين يصبح التفوق الدراسي عبئًا

في المفارقة الكبرى، يبدو أن بعض المشغلين المغاربة باتوا يعتبرون الشواهد العليا “عبئا” أكثر مما هي ميزة. فالشاب الحاصل على الماستر أو الدكتوراه يُنظر إليه على أنه “كثير الطموح”، “صعب الإرضاء”، وربما “مزعج للمحيط”، لأن مستواه العلمي يجعله أكثر وعيا بالخلل الإداري والتنظيمي. لذلك، يُفضَّل في بعض المؤسسات تشغيل من هو أقل كفاءة علمية وأكثر قابلية للانضباط والخضوع.

وهكذا، يتحول التفوق الدراسي في نظر سوق العمل المغربي إلى وصمة تفوق زائدة، وكأن حامل الشهادة العليا ارتكب “خطأ” باجتهاده في الدراسة، متناسيا أن المطلوب اليوم ليس الكفاءة، بل “الانسجام” مع منطق العلاقات والولاءات.

الوساطة: العملة الصعبة في سوق الكفاءات

قد يملك الشاب كل المؤهلات المطلوبة في ملفه، لكن ما لا يملكه هو ما يُعرف في الشارع المغربي بـ”الكتاف”. هذه الكلمة تختصر منظومة كاملة من الوساطات والمحسوبيات التي تتسلل إلى كل مفاصل التشغيل في القطاعين العام والخاص. فالمناصب تُمنح غالبا لا على أساس الشهادة أو الخبرة، بل على أساس “من تعرف”، أو “من يمكنه أن يتصل لك”.

وفي حالات كثيرة، تُعلن مباريات التوظيف، لكن نتائجها تكون محسومة مسبقا. تتكرر القصص ذاتها: ملفات ترفض لأسباب “إدارية”، امتحانات صورية، أو مقابلات شكلية. والمحصلة النهائية: تهميش مستمر للشباب الجاد الذي يصر على أن يكون العمل ثمرة الاستحقاق لا القرابة.

القطاع الخاص… بين استغلال وطموح مكسور

القطاع الخاص، الذي يفترض أن يكون بديلا مرنا وسريع الاندماج، تحول هو الآخر إلى متاهة من العقود الهشة والأجور الهزيلة. في كثير من الأحيان، يتقاضى حامل الماستر نفس الأجر الذي يتقاضاه شخص دون شهادة، بل ربما أقل، لأن “الخبرة” أصبحت مبررا دائما للتقليل من قيمة الشهادة.

شركات كثيرة تستغل حماس الشباب، فتقنعهم بالعمل المجاني أو براتب رمزي تحت شعار “التدريب” أو “اكتساب التجربة”. وهكذا، يصبح الشاب المتخرج مجرد رقم في آلة إنتاج لا تهمها طموحاته ولا كفاءته.

الإصلاحات الموعودة… وغياب الرؤية

الحكومة تتحدث كثيرا عن دعم التشغيل، وعن برامج مثل “أوراش” و“فرصة”، لكنها في الواقع تقدم حلولا ترقيعية لا تلامس جوهر الأزمة. فالمشكل ليس فقط في غياب فرص العمل، بل في اختلال العلاقة بين التعليم وسوق الشغل.

المناهج الجامعية ما زالت نظرية إلى حد كبير، لا تراعي حاجيات السوق ولا التحولات التكنولوجية. المؤسسات الجامعية تُخرّج الآلاف سنويا دون أي مواكبة حقيقية أو مراكز توجيه فعالة. أما القطاع الخاص، فقلما يشارك في التكوين أو في رسم خريطة التخصصات المطلوبة.

جيل يرفض الاستسلام

ورغم كل هذا العبث، يظل جيل الشباب المغربي اليوم جيلًا صامدًا ومبدعًا. في وجه التهميش واللامبالاة، برزت مبادرات فردية وشركات ناشئة أسسها شباب لا يملكون سوى أفكارهم وإصرارهم. البعض اتجه إلى المجال الرقمي، فخلق فرصا عبر الإنترنت، وآخرون أعادوا اكتشاف الحرف التقليدية بروح عصرية، وغيرهم اختار الهجرة في رحلة بحث عن كرامة مهنية مفقودة.

لكن هذه النجاحات الفردية، على أهميتها، لا تُخفي المرارة الجماعية: إحساس بالخذلان من منظومة جعلت من العلم عبئا، ومن الجهد مضيعة للوقت، ومن الوظيفة حلما بعيد المنال.

إلى متى يستمر هذا العبث؟

ليس من المنطقي أن تتحول الجامعات إلى معامل لإنتاج البطالة المقنعة. ولا من المعقول أن يبقى الشباب الحامل للشواهد العليا حبيس المقاهي، ينتظر “معجزة” في بلد يرفع شعارات التنمية البشرية صباح مساء.

الحل لا يكمن في الخطابات ولا في المبادرات المؤقتة، بل في إصلاح جذري للمنظومة التعليمية والتشغيلية. إصلاح يربط بين الجامعة والمقاولة، بين البحث العلمي والاستثمار، بين الكفاءة والتوظيف.

الشباب المغربي لا يطلب المستحيل. كل ما يريده هو أن يجد مكانه في وطنه، دون أن يضطر للهجرة أو لدفن أحلامه في أوراق رسمية لا قيمة لها في سوق لا يعترف إلا بالمصالح.

ويبقى السؤال المؤلم:
كم من مهندس سيصير بائعًا؟ وكم من دكتور سينتهي سائقًا؟ وكم من أستاذ سيهاجر بحثًا عن كرامة مهنية؟
وهل سنستمر في إنتاج جيلٍ كامل من “العاطلين الخفيين” الذين يبتسمون كل صباح فقط لأنهم لم يفقدوا الأمل بعد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.