مجتمع

العلاقات الإنسانية في المجتمع المغربي: من دفء الأمس إلى زمن الجفاف العاطفي

ضربة قلم

في قلب المجتمع المغربي، كما في أغلب المجتمعات التقليدية، كانت العلاقات الإنسانية تمثل العمود الفقري لكل شيء. كانت ترتكز على قيم نبيلة مثل التضامن، التآزر، الكرم، والحياء. كان الجوار له حرمته، والأسرة تمتد بأذرعها إلى العم والخال والجار، والصديق كالأخ بل أحيانًا أقرب. لكن، وكما تتبدل الفصول، تبدلت هذه العلاقات. تغير الإنسان، وتغيرت أولوياته، وتبدلت أدوات التواصل والعيش، فانهارت روابط، وانكمشت مشاعر، وتسللت المصالح لتفسد ما تبقى من حميمية التواصل.

كيف كانت العلاقات في المغرب؟

1. الجوار: أكثر من مجرد تعايش

في الماضي، لم يكن الجار مجرد ساكن بالجوار، بل كان شريكًا في الفرح والحزن، وصوتًا يُسمع في الغياب قبل الحضور. كانت “القصعة” تُدَار بين البيوت، و”الكسكس” لا يُطهى دون أن يُرسل جزء منه للجيران. كانت “التويزة” تجمع الأحياء في البناء والحصاد، وكانت الدموع تُسكب جماعيًا في العزاء.

2. الأسرة: الدفء الممتد

الأسرة لم تكن نواة صغيرة، بل كانت خيمة كبيرة، يعيش فيها الجد والجدة، الأبناء والأحفاد، ويأكلون من نفس الطبق. التربية كانت جماعية، وكل فرد مسؤول عن الآخر. القرابة لم تكن مجرد نسب، بل التزام وواجب، وحب لا يُشترط فيه المقابل.

3. الصداقة: الوفاء دون شروط

كان الصديق يحمل سر صديقه، ويسنده وقت الشدة. الصداقة كانت تُبنى على السنوات والتجارب، لا على الصور والمنشورات. كانت الصداقة تمتد لعقود، وتشبه الروح التي تسكن جسدين.

ثم… كيف أصبحت؟

1. الفردانية الزاحفة

تحت تأثير العولمة، والضغط الاقتصادي، ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأ المغربي ينسحب إلى عالمه الخاص. أصبح كثيرون يعيشون خلف جدران سميكة، يفضلون العزلة، ويتهربون من الاختلاط. الجار قد يمرض أو يموت دون أن يعرف عنه أحد، وقد تسكن عشر سنوات بجوار شخص دون أن تعرف اسمه.

2. طغيان المصلحة على العلاقة

أصبحت العلاقات تُبنى غالبًا على أساس ما يمكن أن يُجنى منها، لا على العاطفة أو الواجب الأخلاقي. تجد من يتودد لك فقط لأنه يحتاج خدمة، أو يتواصل فقط عند المصلحة. هذا التحول جعل العلاقات سطحية، سريعة التآكل، فاقدة للثقة.

3. التفكك الأسري وصراع الأجيال

تحولت الأسرة إلى مجموعة نوى متناثرة، كل واحد في عالمه. الجد والجدة في دار المسنين أو في عزلة، الآباء غارقون في العمل، والأبناء في الهواتف والشاشات. التواصل داخل الأسرة أصبح مشوشًا، وأحيانًا منعدمًا، وصار الصراع بين الأجيال سمة بارزة.

4. الصداقة الرقمية… الوهم الجميل

في عصر “اللايك” و”الستوري”، أصبحت الصداقة تُقاس بعدد المتابعين، لا بعمق العلاقة. كثير من الشباب يعيشون علاقات رقمية، تغيب عنها المشاعر الحقيقية. نضحك معًا على الشاشة، لكن حين نبكي، لا أحد يمد لنا يده.

ما الأسباب؟

  • العوامل الاقتصادية: الغلاء، البطالة، الهجرة، وتفشي القروض جعلت الإنسان أكثر قلقًا وانغلاقًا.

  • التحولات الثقافية: تراجع القيم الجماعية، وصعود قيم السوق، وثقافة “أنا أولًا”.

  • الانفجار التكنولوجي: الهواتف الذكية والإنترنت غيرت شكل العلاقات، فصارت وقتية، سريعة، وفارغة أحيانًا.

  • تفكك المنظومة التربوية: المدرسة لم تعد كما كانت حاضنة للأخلاق، بل صارت كثيرًا ما تُغذي العنف والتنافس بدل التعاون.

هل انتهى زمن العلاقات النبيلة؟

ليس بالضرورة. في القرى، وفي بعض الأحياء، ما زالت الروح الجماعية قائمة. هناك من يُقاوم التيار، من يتمسك بالقيم الجميلة، من يزور جاره، ويعتني بأهله، ويحفظ العهد مع أصدقائه. لكن هؤلاء صاروا قلّة.

نحو استعادة الدفء المفقود

  • إعادة الاعتبار للتربية الأسرية: عبر غرس قيمة التعاون والتضامن منذ الصغر.

  • تشجيع المبادرات الاجتماعية: مثل التويزة الحديثة، وجمعيات الجوار، وأنشطة التراحم.

  • استخدام التكنولوجيا بإيجابية: فبدل أن تُفرقنا، يمكن أن تُقربنا إذا استعملناها بحكمة.

  • العودة إلى البساطة: في العيش، والتفكير، والتعامل. البساطة في العلاقات هي ما يجعلها صادقة.

خاتمة: هل من أمل؟

الأمل دائمًا موجود، لأن الإنسان المغربي يحمل في داخله مخزونًا هائلًا من الطيبة والكرم والوفاء. نحن فقط نحتاج إلى استعادة تلك القيم من تحت ركام التسارع والضجيج. فالعلاقات ليست رفاهًا، بل ضرورة، والدفء الإنساني ليس ترفًا، بل حاجتنا العميقة في زمن الجفاف العاطفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.