العلاقات الإنسانية: من حرارة القلوب إلى صقيع المصالح

محمد صابر
في زمن مضى، كانت العلاقات تُبنى على الصدق، على “الوجه المكشوف” و”القلب الطيب”، على رغيف خبز يُقسم بين الأحبة، ونظرة عين تُغني عن ألف كلمة. اليوم، تَحوّلت العلاقات إلى ماكينات حسابية، تُقيّم الآخر بناءً على قدرته على “المنفعة”.
ولك أن تتخيّل، كيف يُصبح الإنسان في هذا المناخ؟ آلةً لا تَمنح عاطفة إلا بمقابل، ولا تُبدي مودة إلا بشروط، كأنها صفقة تجارية لا مكان فيها للدفء أو الوفاء.
نعم، لا نُنكر أن المصالح كانت دومًا جزءًا من الحياة البشرية، لكنها اليوم أصبحت الركيزة الوحيدة للعلاقات. الأسوأ من هذا، أن تلك المصالح لا تُبنى حتى على تبادل شريف، بل على نفاق متبادل، وتزلف مرضيّ.
الكفاءة… عيبٌ في زمن الرداءة
في مجتمع مريض، الكفاءة تتحول إلى تهديد، والمعرفة إلى عبء، والنزاهة إلى تهمة.
حين يكون معيار النجاح هو “من تُجامل” لا “ما تُنجز”، يصبح من الطبيعي أن يُحارب المثقف، ويُقصى الكفء، ويُكرم الفارغون المتملقون.
ترى المثقف الحقيقي هدفاً للحرب الخفية، والمهندس المبدع مُهمّشًا، والمفكر يُتهم بالتعقيد، بينما يتصدر الساحة من لا يملكون سوى فنون التزلف والتملق، أولئك الذين يحسنون “اللعب في الظل” لا العمل تحت نور الحقيقة.
أصبحنا في مجتمع يخاف من أصحاب الرأي، لا لأنه يخشى الخطأ، بل لأنه ألفَ الجهل واعتاده، وأي عقل حر يُوقظه يُعتبر مصدر تهديد.
محاربة المثقف… كأننا في حرب ضد الوعي
المثقف اليوم في مجتمعنا مثل حامل النور وسط مجموعة تعودت العيش في العتمة. بدل أن يشكروه، يطالبونه بإطفاء النور لأنه يفضح الظلام الذي ألفوه.
المثقف يُزعج لأنه يطرح الأسئلة، لأن عينيه مفتوحتان بينما هم اختاروا النوم في العسل.
محاربته لا تأتي فقط من الجُهّال، بل من بعض “أشباه المثقفين”، أولئك الذين يلبسون ثوب العلم وهم منه بُراء، ويعيشون على فتات مديح السلطة أو الجماهير، ويخافون من كل صوت صادق قد يفضح زيفهم.
أمراض المجتمع… بين الطبع والتطبع
لنكن صريحين: نحن لا نتحدث فقط عن أزمة أخلاقية، بل عن مرض عضال، اجتماعي، تربوي، وثقافي. من أعراضه:
- الأنانية المتطرفة: الفرد لم يعد يرى سوى نفسه، وإن قدّم شيئًا فهو انتظار لرد الجميل، لا حبًا أو مشاركة.
- السطحية: فكر سطحي، ثقافة تافهة، إعلام فارغ، حديث يدور حول الموضة و”الترندات”، بينما تُهمل القضايا المصيرية.
- العنف الرمزي والمعنوي: اختلاق الاشاعة ضد المختلف، التنمر على الناجح، كأن المجتمع يُكافئ الرداءة ويُعاقب التفوق.
- الخوف من التغيير: حتى عندما يظهر بصيص أمل، يتآمر عليه الجميع ليبقى الوضع على ما هو عليه، لأن التغيير يُرعب من اعتاد على “الفساد المريح”.
بيئة العمل: من مكان إنتاج إلى مسرح للنفاق المسرحي
المفروض أن نذهب إلى العمل لنُنجز، لنعطي، لنبدع، وربما لنُبنى معنويًا، لننتمي. لكن، كم منّا يشعر حقًا أن بيئة عمله تمنحه هذا؟
تحولت مقرات العمل إلى مسارح، حيث تُوزع الأدوار لا على أساس الكفاءة، بل على حسب “من يُحسن التمثيل أكثر”.
عوض أن تُكافَأ الأفكار، يُكافأ من يحسن الحضور في الاجتماعات، من يتقن “التمسّح” على أعتاب المسؤول، من يعرف متى يبتسم ومتى يهز رأسه ويقول “عندك الصح السي المدير”.
أما من يفكر خارج الصندوق، من يقول: “لماذا لا نجرب شيئًا جديدًا؟”، فغالبًا ما يُوصف بالمشاغب، أو حتى بـ”الخطير”، لأنه ببساطة يكشف الرداءة، ويهدد السلم المصطنع داخل مملكة الفشل.
الموظف الصادق في عمله، الوفي لفريقه، المُجتهد في تطوير نفسه، يَجد نفسه وحيدًا، كأنه طالب لجوء في وطن لا يعترف بالمثابرين، بل فقط بالمطبلين.
الأسرة: من دفء الروح إلى قاعة محاكمة غير مرئية
الأسرة، التي يُفترض أن تكون حضنًا، تتحول أحيانًا إلى أول فضاء نتعلّم فيه النفاق.
طفل صغير يُكافَأ لا حين يكون صادقًا، بل حين “يسمع الكلام”، ولو كان ذلك على حساب شخصيته. مراهق يُتهم بالتمرد لأنه يفكر، لأنه لا يُردد ما يقال له كالببغاء. الكبار يُمارسون سلطتهم أحيانًا باسم الدين أو العرف، وهم في كثير من الحالات يُلبسون الأنانية لباس الحكمة.
كم من فتاة تمت شيطنتها لأنها رفضت أن تكون مجرد “مشروع زواج”، وكم من شاب نُعت بالفاشل لأنه اختار أن يرسم أو يكتب بدل أن يلتحق بطابور الوظيفة المملة.
داخل العائلة، يُمكن أن يُصبح الطموح تهمة، والاختلاف جريمة، والنجاح مدعاة للغيرة أكثر منه للفخر.
وفي عزّ هذا، يظلّ صوت “الجدّات” أكثر صدقًا من عشرات الدروس، لأنهن – غالبًا – لا يُجيدن النفاق ولا يَكذبن باسم المصلحة.
فهل من أمل؟
رغم هذا السواد، يبقى النور ممكنًا. يبدأ من صدقنا مع أنفسنا، من رفضنا أن نكون جزءًا من القطيع. من الإيمان بأن الحقيقة، حتى وإن طُمست، لا تموت.
قد تكون الاستقالة من هذا المجتمع السقيم فعلًا من أفعال الشجاعة، لكن ربما علينا أن نُعيد تعريفها: ليست انسحابًا، بل وقوفًا خارج اللعبة، لفضحها، لكشف أوراقها، وللعمل من بعيد – ولو ببذور صغيرة – على غرس شيء جديد، أنقى، وأصدق.
نحن لا ندّعي النبوة… نحن فقط نرفض السُبات
لا ندّعي أننا أنبياء، ولا أوصياء على الحقيقة، ولكننا نرفض أن نُسكت ضمائرنا باسم “الواقعية”، ولا نقبل أن نُمسخ لنسير مع القطيع ونُردّد المقولات البالية كأنها وحي.
صحيح أننا نُغرد خارج السرب، لكننا نعلم أن ذلك مكلف. نحن نعيش عزلة فكرية أحيانًا، ونتحمل جفاءً اجتماعيًا في أحيان أخرى، لكننا في المقابل ننال ما هو أغلى: صفاء داخلي وعلاقات حقيقية، حتى وإن كانت نادرة، لكنها ثمينة، مثل الذهب في زمن البلاستيك.
نفرح حين نجد من يُشاركنا فكرًا صادقًا، من يُنصت لا ليُجيب، بل ليفهم. نفرح بمن لا يرى فينا منافسًا بل رفيق درب، من يَقدر الكلمة الطيبة، ويَرفع قيمة الصدق لا عدد المتابعين.
جيش الأميين لا يخيفنا… بل يُحفزنا
قد يَضحك البعض ساخرين من أفكارنا، يَسخرون من عمقنا، ويتغنون بسطحية لا تطاق. لا بأس.
نحن لا نبحث عن تصفيق الجمهور، بل عن أثر صغير في فكر يقظ، عن شرارة تنير قلبًا، عن جملة قد تُغير مسار حياة.
الجيش العرمرم من البؤساء قد يَملأ الساحات، لكن الكلمة الحقّ لا تحتاج جمهورًا لتكون عظيمة. يكفي أن تصل إلى قلب واحد يُؤمن بها حقًا.
خاتمة خارج النفاق
النفاق، يا صديقي (تي)، قد يربح جولات، لكن الصدق وحده هو من ينتصر في النهاية.
وإن كنا أقلية اليوم، فإن التاريخ لطالما كُتب على يد أولئك الذين غردوا خارج السرب، ثم صار السرب يُغنى بألحانهم بعد رحيلهم.
فلا تُبدل جلدك. لا تُطفئ وهجك.
لأن الصدق، حتى وإن أوجع، يبقى أرقى أشكال النبل الإنساني.
صحافة للبيع: حين تُصبح الكلمة خادمة للسلطة
النفاق الإعلامي هو الوجه اللامع لزيف جماعي، يُجمِّل القبح ويُقزِّم الحقيقة باسم “الحياد” أو “الخط التحريري”. في زمن صارت فيه “المهنية” تعني تمجيد الفاسدين وتبرير القرارات الجائرة، تحوّل الإعلام من سلطة رابعة إلى خادم مطيع في بلاط السلطان. تُرفع الأصوات لمدح من لا يُنجزون، وتُخنق الأفواه الصادقة التي تكشف المستور. الصحافي الذي يُمارس دوره كمواطن نزيه يُتهم بالتحريض، بينما يتنقل المُطبل بين القنوات كمخلل سياسوي وخبير وطني. وهكذا، يصبح الإعلام سلاحًا في يد السلطة، لا مرآة للمجتمع، ويصير الكذب فضيلة إذا خُدِمَ بها “الاستقرار”، ويُصبح السؤال الجريء جريمة تُواجه بالتشهير والتخوين.